معرض انعكاس للتشكيلية دينا القلال (الصورة: عن تاناروت)
سرد طيوب النص

تشظّي المرايا

الصورة: عن تاناروت.
الصورة: عن تاناروت.

تمر أكثر من ساعة دون أن يأتي أحد من المسؤولين لغرفة الانتظار. كان الهدوء يسود المكان، تتخلله من حين لآخر كلمات وتمتمات من الزوجين الصينيين وهما يحاولان تهدئة طفلهما الذي يبدو أنه يشعر بالضجر من طول مكوثه في عربته. تستمر المرأة السمراء في فرك يديها وهز قدميها من التوتر، فأشيح بنظري عنها، فأنا لست بحاجة لمزيد من التوتر. تتلاقى عيناي بعيني الشاب الـ”هندي”، فيبتسم ابتسامة شاحبة، ويبدو أنه وجدها فرصة ليسألني إن كنت أتحدث الإنجليزية، وبمجرد أن أجيبه “إلى حد ما”، يأتي ليجلس قريباً مني ليبدأ دون مقدمات في سرد قصته!.

“إسمي نزير” (ربما نذير أو نظير)، وأنا من بنغلاديش”، يفتتح كلامه بلغة إنجليزية ذات لكنة أسيوية مميزة. “كنت أدرس في جامعة لندن ميتروبوليتان وحصلت منها على ماجستير في الإقتصاد والإدارة. إضطر والدي وأعمامي لرهن أرضنا لتغطية جزءاً من تكاليف دراستي في بريطانيا. كنت طالباً متفوقاً، وكان والدي يحلم دائماً أن يرسلني للدراسة في بريطانيا، مثلما فعل خالي (أحنف) مع ابنه (مزهر)، حيث أرسله للدراسة في كندا بعد أن تم رفضه للتأشيرة في بريطانيا، وقد أكمل درجة الماجستير في برمجة الحاسب، ويعمل الآن في شركة كبيرة في تورنتو، وتحصل على الإقامة الدائمة”. هنا يُفتح باب صالة الإنتظار، لتدخل عبره موظفة بيضاء نحيفة ترتدي البدلة المميزة لموظفي الهجرة، تبدو في الخمسينيات من عمرها، على الرغم من الصبغة الشقراء التي تخفي بها الشيب، ومسحة المكياج التي تضعها على وجهها. تنادي الموظفة بنبرة جادّة -يعلوها بعض من نفاذ الصبر، وهي تحاول نطق الإسم بشكل صحيح-: “السيدة ماونياغا أبياه” فتنتفض السيدة الأفريقية وتسحب حقيبتها الصغيرة؛ دون حتى أن تسألها الموظفة ذلك. وبمجرد أن تغادر السيدتان، يدنو مني (نزير) ليقول لي بصوت خافت: “هذه امرأة من غانا، قبل أن تأتي أنت كانت تجهش بالبكاء، وتصرخ بلغة مختلطة بين الإفريقية والإنجليزية أنها تعرضت للاغتصاب أكثر من مرة، من أكثر من عشرة رجال من بينهم شرطة وجيش. ثم انتابتها نوبة هيستيريا مما استدعى حضور الإسعافات”. ثم يستطرد “حسب ما فهمته من كلامها مع فريق الإسعاف أنها صحفية تكتب في جريدة محلية، وقامت بتحضير-ونشر- تقرير ما حول مافيا متورطة في تهريب الحيوانات البرية والعاج من أفريقيا للصين”. ثم يبتسم فجأة ليغير مسار كلامه:”لكن فات عليك أن تقابل (باهرام)، الشاب الإيراني المخنث. كانت ملامحه ومشيته تجعلك تشك في أنه رجل. غير أنه كان لطيفاً ويبتسم للجميع، ويقوم بحركات مضحكة وبعض الرقصات. تصوّر أنه تمكّن من جعل المرأة الأفريقية تضحك لوهلة، وعندما كان الطفل الصيني يبكي بشدة، حمله بين ذراعيه فسكت مباشرة!. لقد كان يبدو مرتاحاً ويتصرف بتلقائية غريبة. كنت قد جئت بعدهم، فلم أجد الفرصة لأسأله سبب طلبه اللجوء، لكني أستطيع أن أخمّن ذلك على كل حال، فقد تم تعذيب (وهيب) ابن قريتنا، ثم تمّ صلبه على جذع شجرة لأسبوعين كاملين، قبل أن تُلقى جثته في النهر، بسبب ممارسته اللواط مع أبناء أثرياء القرية الذين تم إرسالهم للعمرة للتطهر وطلب المغفرة”. وهنا يتذكر (نذير) أنه لم يكمل لي سرد قصته فيقول: “غير أن حظي لم يكن كابن خالي (مزهر)، فوالده حالته المادية أفضل منا بكثير فهو يملك عدة مزارع، وثلاث أو أربع مراكب صيد، كما أنه شريك في معمل خياطة كبير في (دكا) يقوم بتصنيع الملابس لبعض الماركات المشهورة في أوروبا. أما نحن فنملك مزرعة كبيرة للأرز شراكة مع اثنين من أعمامي، ومركب صيد يقوم عليه اثنين من إخوتي مع شاب قروي. كان الاتفاق بين والدي وعمي من جهة، والتاجر الثري من جهة أخرى؛ أن يقوم بإقراضنا مبلغاً مالياً يكفي لدفع الرسوم الدراسية، ورسوم التأشيرة والتذكرة، ومصروف جيب لي، على أن يقوما برهن أرضنا، ومنحه نصف دخل المزرعة لمدة ثلاث سنوات، أكون خلالها قد أكملت دراستي ووجدت عملاً في بريطانيا يسمح لي بسداد بقية القرض. غير أن الأمور لم تمضِ كما كان مخططاً لها، فقوانين الإقامة في بريطانيا تغيرت وأصبحت أكثر تعقيداً، وبالتالي لم أحصل على العمل المرجو لتغطية القرض. كذلك فإن إعصاراً ضرب منطقتنا أدّى لغرق أرضنا، وتخريب المرفأ الذي ترسو عنده قوارب الصيد. وعندما جاء موعد سداد القسط الأول من القرض، لم يتمكن والدي من ذلك. كان من المفترض أن أكون أنا قد بدأت العمل في بريطانيا، ولكن كل ذلك لم يحدث. حاول والدي وعمي تأجيل السداد لسنة إضافية ريثما تتحسن الظروف، ولكن التاجر رفض ذلك بشدة، وهدد بأنه إذا لم يتم تسديد المبلغ حسب ما تم الإتفاق عليه، فإنه سيقوم بوضع يده على أرضنا. وعندما احتج والدي ورفض الإذعان للتهديدات، أرسل الرجل سيارتين مليئتين بالبطلجية، اعتدوا بالضرب على والدي وإخوتي، وقاموا بأخذ الأبقار التي نملكها، وتحطيم بيوتنا. قام والدي بالشكوى لدى الشرطة، ولكن التاجر لديه نفوذ كبير في الحكومة المحلية، لدرجة أن رئيس الشرطة نفسه “نصح” والدي أن يرد للتاجر ماله وإلا فإنه سيقوم بمصادرة أرضنا، وبالفعل لم تمض أيام قليلة حتى جاء التاجر صحبة أعوانه وسيارة شرطة ومعهم أمر بتسليم المزرعة بما فيها له. حاول والدي وأخوتي وأعمامي منع تنفيذ الإجراء، وحدثت مشادة كبيرة بينهم، وبين التاجر وأعوانه، وصلت لمدّ الأيدي، لم يوقفها إلا تعرض والدي لنوبة قلبية حادة، قضى على إثرها وهو في الطريق إلى المستشفى الذي يبعد عنا أكثر من أربعين كيلومتراً. بعد أيام قليلة من وفاة والدي، جاءت قوة كبيرة من الشرطة وقامت بطرد عائلاتنا من الأرض، ومصادرة كل ما فيها، فتشتت عائلاتنا بما فيها من أطفال وعجائز بين بيوت الأقارب والمعارف في القرية. بلغ الغضب مبلغه مع أخوتي وأبناء عمومتي، فتجمعوا عند إحدى الطرق الزراعية يصحبهم مجموعة من أقاربنا متسلحين بالعصي وقضبان معدنية، وبمجرد رؤيتهم لموكب التاجر قاموا بالهجوم عليه هو وأعوانه، وقاموا بضربهم وتهشيم سياراتهم ثم أضرموا فيها النيران، ومن هناك انطلقوا ليضرموا النيران في مخازن المحاصيل التي يملكها وقتل عدد كبير من أبقاره ومواشيه وتكسير قواربه”. لم أحاول التعليق مطلقاً وأنا أستمع لـ(نظير) وهو يسرد قصته، وكأنه يروي قصة فيلم هندي، ولولا إصفرار وجهه، وجفاف شفتيه، وملامح التأثر الواضحة على وجهه وهو يحكي؛ لولا ذلك لقلت أنه يحكي أحداثاً من نسج خياله يتدرب بها على مقابلة موظفي الهجرة لمنحه اللجوء. يُفتح باب القاعة مجدداً، ليدخل موظف أسود البشرة، ربما في الثلاثينات من عمره، ذو قوام ممدود فارع، وعضلات بارزة عند الصدر والكتفين تدل على أنه يمارس الرياضة بشكل مستمر. يقوم الموظف بمناداة السيد “تشو هوانج”؛ فيتقدم نحوه الرجل الأسيوي، وزوجته وهي تدفع عربة الطفل أمامها، ثم يغادرون جميعاً ليعود الصمت للقاعة.

مقالات ذات علاقة

Bishou

جلال عثمان

رواية: اليوم العالمي للكباب – 8

حسن أبوقباعة المجبري

لحظة غروب

فائزة محمد بالحمد

اترك تعليق