من أعمال التشكيلية الليبية .. مريم العباني
قصة

حديث بلا شفاه

من أعمال التشكيلية الليبية .. مريم العباني
من أعمال التشكيلية الليبية .. مريم العباني

لم يبقْ في ذاكرته المكتظة بالألم.. والمكسوة بالحسرة.. إلا ذلك الوجه الجميل.. والصدر الرحب لتلك المرأة، الذي تمنى أن لا تودعه إلى رحاب الله.. إلا بعد أن يستقر به المقام في الوطن بعد رحلة الاغتراب التي استمرت سنوات طويلة.. ولكن القدر.. كان أقوى من تمنياته.. فبقى ذاك الوجه العنصر الجميل في ذاكرة زاخرة بشتى الآلام.. يرتبها كعادته.. ويجعل منها مجسماً أركانه مترعة بقسوة ونذالة أقرب الأقربين إليه. في لحظات ضعفه الشديد تجتاح نفسه تلك الكآبة القاسية المتمثلة في تصرفات نزقة لأخوة مسحت ملامحهم أيادي زوجات وقحة، وأخت طمس معالمها الجميلة الخيرة زوج.. مترع بالغم يبحث عن الشيطان في أركان ذاته.

تتجمع المظاهر الثلاثة في كنه نفسه.. مكونة أضلاعا مثلثة في حركة نزقة لا أصالة فيها.. يتربع على أطلالها يحدق فيهم يحاول أن يبحر في بؤس ذاكرتهم.. ليعرف ماهية أنفسهم.. ولكن..!!

يهفو بروحه ونفسه إلى ذلك الوجه المتميز الذي يتمثل في وجه أمه.. فيطل عليه باكٍ مترعٍ بألم خلّفه عبث الآخرين.. ومتقلص من ألم الداء.. الذي يأكل داخلها الجميل.. ينتفض وهو يرى الوجه المخضب بالألم.. وقد ملأته بسمة يانعة.. والكلمات تنساب من خلال شفتين تحمل مشقة كل هذا الكون.

– ربي يفتح عليك يا وليدي.

يدقق في ماهية الصوت القادم، عبر مخيلته الملبوس بوهج الأذى.. يغمض عينيه.. ليتحسس بروحه المرهفة ذلك الصوت المتهدج.. يغيب الصوت في دهاليز نفسه من جديد.. ثم يطفح مرة أخرى كقطعة الفلين على السطح.

– ماذا أنت فاعل فيما أتى به السفهاء؟

يتداخل الصوت في ذاكرته كالنغمة الحنونة المتيقظة.. ينتبه ليحدق ملياً في الدوائر اللامتناهية المرسومة بعناية.. غاية في الجمال.. التي كونت صدى صوت أمه وصورتها.. فتح فاه دهشةً.. وأغمض عينيه.. ليبقي على تلك التقاسيم في ذاكرة مسخها السفهاء من أبنائها.

تتفتح إحدى الدوائر المتلاحقة، ليأتي الصوت حاداً ثابتاً لا يزعزعه إلا خروج الكلمات من بين أسنانها الناصعة البياض، وهي تهم بالقول:

– الحب.. عطاء من دون مقابل، وعندما يتوقف هذا الدفق الفيّاض لا نعود أوفياء لأنفسنا !!

مسحت دمعتها الساخنة الممتدة عبر ذاتها، ثم استطردت القول بكثير من التأني:

– إخوتك أشواكهم خطيرة.. والأخطر أن ضفائرهم تنجدل في أحضان أشجار ثقيلة!! ثم ألم تدرِ أن الحياة نهر متدفق عجول.. يغرينا.. ثم يرغمنا على النسيان.. طوبى لهم.. طوبى لهم..

بهتت الدوائر المتلاحقة في ذاكرته رويداً.. رويداً حتى تفسخت ملامح ذلك الوجه الجميل.. المتمثل في وجه أمه.. عندئذ أغلق فاه.. وفتح عينيه !!

مقالات ذات علاقة

الحِــرْبـاء

أحمد يوسف عقيلة

المعطف الأبيض

عزة المقهور

جلد

ناجي الحربي

اترك تعليق