المقالة

مدينة ومدن

بوابة الوسط

يمكنني في أحايين كثيرة تتبع أثر تفاصيل أسرارعلاقاتي الشخصية – حبا أو كرها – بكل مدينة من مدن العالم صادف وأن زرتها سائحا أو عابراً أو حتمت الظروف إقامتي بها لفترات تقصر وتطول لأسباب مهنية أو اجتماعية، وأعترف أن مدينة القاهرة الوحيدة من بينهن جميعا التي أحببتها قبل أن تطأها قدماي، وقبل أن أجدني مشتبكا في فوضى زحامها وصداع ضجيجها من خلال وسيط ألا وهو الأدب وتحديداً من خلال ما قرأته من أعمال أدبية إبداعية روائية وقصصية وشعرية ومسرحية لكتاب مصريين في أغلبهم وعرب وكانت حواريها وشوارعها وأزقتها ومقاهيها وحاناتها ونيلها مواقع أحداث ما أبدعوه وأنها الوحيدة من بينهن جميعا التي أصابتني بإحباط عاطفي كبير حين زرتها للمرة الأولى في سني الشباب وفي ما تلاها من زيارات في مراحل عمرية متقدمة.

فأن تقرأ عن القاهرة وتتتعرف عليها إبداعيا متوغلا في حناياها داخلا في علاقة مع مدينة مثقلة بحمولة تاريخها وازدحام سكانها من خلال أعمال أدبية لكتاب مصريين خاصة القاهريين منهم كنجيب محفوظ أو جمال الغيطاني على سبيل المثال لا الحصر شيء وأن تخوض بقدميك أياماً في أوحال زحامها وضجيجها وتلوثها وفوضاها شيء آخر.

وفي جدل العلاقة بالمدن يمكن القول عموماً إن الكثير من الكتاب الذكور شديدو الحرص على تشبيه العلاقة بالمدن بالعلاقة بالمرأة لكني مع مرور الوقت تبين لي أن لا وجه للتشابه أو ضآلته إن وجد وأن العلاقة التي تنشأ بين كاتب ومدينة تختلف تماما عن تلك التي يقيمها مع كائن بشري أنثوي وتبين لي أيضا من خلال تجربتي الشخصية كإنسان وككاتب أن العلاقة بامرأة قد تجعل العلاقة بمدينة ما قوية عاطفيا حد الهوس أو ضعيفة حد الضمور أوالكره هذا أولاً. وثانياً وماذا عن علاقات الحب التي قرأناها وتتبعناها لهوس كتاب ذكور بمدينة أو أكثر دون وجود أثر لأنثى في تلك العلاقة؟ وثالثاً وهذا سؤال يفرض مشروعيته يوما بعد آخر وماذا عن علاقة الكاتبات بالمدن وهل يشبهن علاقاتهن بتلك المدن بالعلاقة برجل أو رجال؟

وعلى المستوى الشخصي تظل علاقتي بطرابلس الغرب المدينة التي قطعوا فيها حبل سرتي وكانت شوارعها وحواريها ملاعب طفولتي وصباي ومراهقتي وشبابي الأكثر حضوراً في القلب وطراوة في الروح وإشعاعا في الذاكرة دون أن يقلل ذلك من عمق حضور مشاعري وذكرياتي وانشدادي عاطفيا إلى مدن أخرى تنفست طيب هوائها واستطعمت لذة هواي.

العلاقة بين كائن بشري ومدينة ما تتسم في كثير الأحايين بالتعقيد لأنها عرضة لأسباب عديدة قد يطول شرحها لكنها على الإجمال تختلف وتتميز من شخص إلى آخر ومن مدينة لأخرى وقد تتوفر في الكثيرمنها مساحة تتسع وتضيق للتشابه لكن يظل لكل إنسان علاقة مميزة بلا مثيل بمدينة ما وربما هذا التميز ما يجعل علاقتي بمدينة القاهرة فريدة في نوعها ومبعث فرادتها أنني أجد القاهرة روحا وخيالا وسحرا وجمالا وغواية مندغمة في صفحات عمل روائي أو قصصي أو شعري ولا أجدها في مكان آخر وربما لهذا السبب أجدني كلما زرت القاهرة ضائعا في شوارعها مجهولا ومتجاهلا في اشتداد زحامها منزعجا من شدة ضجيجها وتلوثها بعوادم السيارات والحافلات وحريصا على مغادرتها بعد أيام قليلة من وصولي إليها ومفكرا في عدم تكرار زيارتها. إلا أنني كل مرة عقب المغادرة بأسابيع سرعان ما أجدني أحس بشوق إليها متحيّنا الفرص لزيارتها.

هذا التضارب في المشاعر نحو مدينة القاهرة وجد مساحة كافية في قلبي للتعايش بدون حاجة تضطرني للبحث عن مبررات سوى قناعتي بقدرتي على التكيف معه بتسامح موقنا بزواله يوما ما مقارنة بما أحمله من باقات ود دائم لكل من يعيش بها -غير مبال بتلوث هوائها – من أحبة وأهل وأخوة وأصدقاء.

مقالات ذات علاقة

مصير النحت في العالم الإسلامي

عمر أبوالقاسم الككلي

رأس بورحيل

منصور أبوشناف

بمقهى الفنانين طرابلس: شربنا القهوة وبعيدا أخذنا الحنين

زكريا العنقودي

اترك تعليق