من أعمال التشكيلي محمد العارف عبيه
قصة

طباهج

من أعمال التشكيلي محمد العارف عبيه
من أعمال التشكيلي محمد العارف عبيه

يشق ظفر وسطى يدها خط بارز.. المسه في كلمرة وأشعر به جرحا لا يؤلم ولا يندمل.. وحين سألتها عنه أجابتني بكلمتين ” منالطباهج”!

لم أفهم حينها كيف لأكلة لذيذة أن تترك أثرا بارزا على غلاف اصبعها..

أقف إلى جانبها وهي تقشر حبات البطاطا، سجينة بين اصابعها، تقبض عليها بقوة، تعريها من غلافها البني، فيظهر لي قوامها الأصفر المتماسك، تتأملها وتحفر بعض تجاويفها التي لا تنصاع إلى سكينها، ثم تغرقها في صحن مليء بالماء… ترتمي فيه وتسكنه بدعة.

تتناول حبات الباذنجان الممشوقة المصقولة اللامعة، تنزع عنها رأسها، تتفنن في تقطيعها على شكل دوائر فيظهر قالبها الأسفنجي المثقوب وحبيباتها الملتصقة ببعضها، وكلما كبرت الدائرة، شقتها إلى نصفين..

تدلق الزيت في “الطاوة” وتتركه يحمى على النار، ما أن تشعر بحركة طفيفة، حتى تضع دوائر البطاطا دفعة واحدة وهي تتراجع فيتناثر الزيت ويهاجم بصوت مباغت، تبعدني بحركة يدها..

“ردي بالك من الزيت”.

تعود لقطع الكوسة بعد تقشير سطحها، أتمعن فيها وهي تتحول من قالب مليء معافى إلى دوائر رقيقة ضعيفة.

“نعرفك تحبيها.. توا نعطيك من البطاطا والقرعة”

تعود إلى “الطاوة” مجددا، تنتشل دوائر البطاطا المحمرة من زيتها وكأنها تنقذها من غرق محقق، تضع أول دفعة منها في صحن، تمده لي…”هيا عبي بطينتك”

كانت رائحة القلي قد عبأت بطني قبل أن أتناول بصعوبة شرائح البطاطا الساخنة وانا ألعق اصابعي..

“علاش الخط هذا”؟

“مش قلتلك من الطباهج”.

أصمت، واراقب، وأحاول أن أفهم كيف شق “الطباهج” أوسطها…

“تبي قرعة”

أهز رأسي إيجابا…

تعود “للطاوة”، ترمي بقرون الفلفل الأخضر الحار فيها وتبتعد، أرى ملامح وجهها تضيق، يطرقع الفلفل في الزيت وينتفض وينتفخ وتعلو غلافه بقع باهتة سرعان ما تتمدد، وتزداد قتامة، وشيئا فشيئا ينكمش حتى يذبل…

تضع الخليط، وتجهز الصلصة الحمراء بالثوم والتوابل وقطع الطماطم الطازجة، ترش قليلا من الخل قبل أن تطفئ النار، بعد أن تطفو على وجهها طبقة الزيت.

يعلو زفيرها معلنة نهاية رحلة طويلة من الوقوف أمام موقد النار.

  كان طباهجها مميزا كما هو خط أصبعها،  تبرز من الصالصة قطع الباذنجان السوداء بوضوح، في حين تختفي قطع الكوسة وبالكاد تكشف البطاطا عن بياض قوامها وقد ثمل بالصلصة الحمراء وفقد نضارته. تميزها في ذلك الخليط الذي تفوح منه حبات الثوم والتوابل وقطع الطماطم الممزوج بغبار الفلفل الأحمر وزريعة الفلفل الأخضر….أغرق اصابعي وأغمس الخبز في “الطباهج” الذي يمتصه، اتفادى الباذنجان والفلفل الأخضر وأسعى للبحث عن قطع البطاطا أو الكوسة..

“كولي باهي خيرك…راني تاعبة فيه”..

لم استسلم، وعاودت السؤال ذات يوم، كانت قد وضعت “كاشيك اللوح” الذي حركت به الصلصة بعد أن تذوقته…

” علاش تطيبي فيه مادام شقلك صبعك”؟

التفتت نحوي، وأطلقت ضحكة عالية وهي تدير يد الموقد وتطفئه…

” كنت صغيرة زيك لكن ما نسمعش في الكلام.. شديت الموس وبنقطع البطاطا”، تغيرت ملامح وجهها وهي تقترب مني وقد بانت لي حبيبات العرق المتراصة على جبهتها، بينما تفوح من جنباتها رائحة الزيت المقلي… مدت لي بيدها وحركت رأسها مشجعة، فلمست جرحها،

“زلق مني الموس وشق صبعي”.

كانت ما تزال الدهشة تسكن عيني …”دم.. صب الدم”؟

“شوق دم صب…وتنحى الضفر.. لكن الحمد لله طلع ضفر جديد لكن مشقوق…”.

ضحكت واسترسلت ” ما في شيء يرجع زي ما كان  وما يجي شيء بلاش”.

كنت أحبها.. وأحب طبيخها، وحين احتضنتني.. هاجمتني سحابة من الزيت وغلفتني حتى بعد أن تركتني لتمزج الخليط المقلي مع الصالصة وتعده للأكل.

بقدر ما يبهجني “الطباهج”، تهاجم رائحته وتعبق المكان وتتسلل إلى المعدة فتفيض عصارتها، بقدر ما يذكرني بذلك الشق البارز على ظفر أوسطها الأيسر، ندب لا يؤلم لكنه ينطق بإستقامته على وقفة طويلة أمام موقد النار لأجلنا.

عزة كامل المقهور

12 ديسمبر 2018 

مقالات ذات علاقة

جندي

المشرف العام

معزوفة الماسورة والماء

محمد العنيزي

بوعبعاب

محمد الأصفر

اترك تعليق