المقالة

القدور الكاتمة

تنطوي معظم المخترعات التكنولوجية على خصيصتين جوهريتين: اختصار الزمن، واختصار الجهد. كان هذا هو الشأن مع أول مخترع تكنولوجي حاسم في تاريخ الحضارة البشرية، ألا وهو اختراع العجلة*، فهذا الاختراع أحدث نقلة نوعية في توفير الوقت والجهد في مجال رفع الأثقال، وأحدث طفرة في مجال المواصلات والنقل عندما قامت عليه صناعة العربات المجرورة. اختراع العربات، المتأسس على اختراع العجلة، خلق وظيفة جديدة للدواب. فلم تعد وظيفة الخيول والبغال والحمير مقتصرة على استخدامها في الركوب والحروب ونقل الحمولات، وإنما أضيفت إليها وظيفة جر العربات. ولم تعد وظيفة الأبقار محصورة في جر المحاريث ونقل الأثقال، وإنما أسندت إليها مهمة جر العربات أيضا.

ظهور العربات المجرورة تولد عنه، تلقائيا، نشوء الطرق بدل المسارب، وقد تكون الحكومات المركزية لاحقا انتبهت إلى اهمية إنشاء شبكات الطرق وتطوير سبل المواصلات لأغراض عسكرية وإدارية.
ثمة مخترعات أقل أهمية وتمارس نوعا من “التأثير الخفي” على مستوى أضيق وأكثر خصوصة. من ذلك مخترع القدر الكاتم أو ما يسمى في الإنغليزية “طاهية الضغط pressure cooker”.
يعود هذا الاختراع تاريخيا إلى فزيائي فرنسي كان مهتما بدراسة البخار اسمه دنس بابن Denis Papin سنة 1679. سنة 1681 عرض اختراعه على جمعية لندن الملكية Royal Society of London، إلا أنه تم التعامل مع الأمر على أنه تجربة علمية وليس اختراعا تكنولوجيا.
سنة 1864 بدأ جورج قَتبرود Georg Guttbrod من شتوتغارت في تصنيع هذا النوع من القدور.
تمتاز القدور الكاتمة بكونها تختصر زمن الطبخ وتقتصد في استهلاك الوقود، وقادرة على إنضاج اللحم العصي واستخلاص المواد الغذائية من العظام.
خلال القرن التاسع عشر كانت الجهة الأكثر اهتماما بهذا الاختراع المؤسسة العسكرية بسبب حاجتها إلى طريقة سريعة لإعداد الوجبات في المعسكرات.
لم تحظ القدور الكاتمة باستقبال أعداد معتبرة من البيوت لها إلا مع ثلاثينيات القرن العشرين، ثم ازدادت شعبيتها خلال الحرب العالمية الثانية. كما قامت عليها صناعة المعلبات الغذائية، وتزداد أهمية القدور الكاتمة في المناطق الجبلية شديدة الارتفاع بسبب تناقص درجات الضغط الجوي ما يجعل الماء يبلغ درجة الغليان في درجات حرارة تقل عن 100 درجة، الأمر الذي يتسبب في عدم نضج الطعام.
*
كثيرا ما يستخدم تعبير “القدور الكاتمة” بمعنى مجازي يدل على فداحة الضغط الذي يتعرض له فرد ما أو مجتمع يرزح تحت وطأة نظام سياسي استبدادي. وقد استخدمت شخصيا هذا المجاز في قصة كتبتها في السجن عنوانها: “إذا الكابوس وقب”!. استخدمت فيها تقديما يبدو منفصلا عن جسد القصة أصف فيه القدور الكاتمة وآلية عملها، حسب ما أتذكره من منهج العلوم في إحدى سنوات المرحلة الإعدادية!.
كانت القصة تتحدث عن مجتمع تفشى بين أفراده الحلم بالكوابيس وكيف انبثقت أدبيات مختلفة تناقش هذه الظاهرة، من ضمنها أدبيات يبدو أن النظام السياسي المتحكم في ذلك المجتمع يدعمها، أو تصدر عنه، ترى في انتشار الكوابيس جانبا إيجابيا، لأن المرء حين يستيقظ من كابوس يفرح باكتشافه أن ما كان يكابده مجرد أضغاث أحلام، وأن الواقع جميل ومريح. كما استشهدت بفقرات من “تقرير جهاز خاص، غير مختص” بهذا الشأن. طبعا الأمر كله حيلة فنية. ولكن علاقة افتتاح القصة بمقدمة تتحدث عن القدور الكاتمة وتبدو غير ذات علاقة بنيوية ببقية القصة، كان إيحاء بالوضع الحاصر بالغ الإحكام الذي يمر به ذلك المجتمع، وأنه ستترتب عنه وقائع وخيمة.

* قبلها كان الإنسان قد عرف النار. لكن هذا اكتشاف وليس اختراعا.

________________________

نشر بموقع بوابة الوسط.

مقالات ذات علاقة

الحقيقة في نهاية ليبيا التي نعرفها – الجزء الثاني

محمد علي المبروك

ما لهم لنا من ميراث الغناء العربي

زياد العيساوي

النقد.. وتشريح الجسد

نورالدين خليفة النمر

اترك تعليق