دراسات

التناص مع القرآن في الشعر الليبي

في عام 1966م ابتدعت الباحثة البلغارية جوليا كريستفا فكرة (التناص) كمصطلح نقدي جديد مشيرة في مقالة لها إلى أنه (في فضاء كل نص معين تتقاطع وتتنافى ملفوظات عديدة مقتطعة من نصوص أخرى)[1] دون ان تنسى الإشادة صراحة في نفس المقالة إلى فضل الكاتب والناقد الروسي ميخائيل باختين في اهتدائها لما اهتدت اليه.
ومع منتصف سبعينيات القرن الماضي صار التناص مجالاً للبحث في النقد العربي، وإن أختلف النقاد والباحثين في تحديد مفهوم واحدا واضحا ومحدداً متفق عليه لهذا المصطلح الوافد من بلاد الغرب، وذلك فيما يبدو بسبب باختلاف التيارات الفكرية والمدارس النقدية، لكنهم اتفقوا تقريبا على جدوى هذا المفهوم وعلى ان التناص كما يشير الناقد المغربي سعيد يقطين (أعطى دفعة جديدة للدراسة الأدبية وجعلها تنمو مختلفة عما كانت عليه في أواخر الستينات)
والتناص في ابسط معانيه كما عرفته كريستفا هو (ذاك التقاطع داخل التعبير مأخوذ من نصوص أخرى) وفي ضوء هذا التعريف أحاول استعراض بعض مظاهر وحالات التناص في الشعر الليبي مع آيات من القران الكريم أو مفرداته أو الفاظه أو معانيه.
المهتم والمتتبع لحركة الشعر في ليبيا يلمس بوضوح استلهام بعض الشعراء فيها وحرصهم على تضمين قصائدهم بعض ما حوى القران الكريم من حكم ومعاني ونصوص وآيات مقدسة لها امتداد عبر الماضي والحاضر والمستقبل، ولقناعة الشاعر الليبي وايمانه الكامل واعتقاده الجازم بأن هذا القران الكريم كلام الله، وانه منهل عذب لا ينضب، يقوي نصوصه الشعرية ويزيد من بهائها وقيمتها، ويقترب باستدعائها من وجدان المتلقي الذي يخاطبه الشاعر ويخطب وده.
وضمن هذا السياق فقد استثمر الشاعر الليبي مفردات القرآن الكريم وأياته ودلالة هذه الآيات ووظفها بشكل موفق في أغلب الأحيان في شعره، حيث رفع بهذا التوظيف الموفق من قيمة النص الشعري حين حمله بدلالات قوية أنسجم فيها النص الشعري مع النص القرآني لينتج الشاعر بذلك خطاباً مبدعا وجميلا .
ففي قصيدة النجوم للشاعر عبد المنعم المحجوب يقول:
كنتُ منذوراً للصمت نجماً بعد نجم
غير أنني صرختُ
ولم يكن أحدٌ هناك ليغفر خطيئتي[2]
في المقطع السابق وظف الشاعر مفردة (خطيئتي) التي وردت في القران الكريم في سورة الشعراء بقوله تعالى: (وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ)  [3] وبحسب تفسير الطبري للقران الكريم  فأن هذه الآية وردت  من فم النبي إبراهيم عليه السلام احتجاجا على قومه, في أنه لا تصلح الألوهة, ولا ينبغي أن تكون العبودة إلا لمن يفعل هذه الأفعال, لا لمن لا يطيق نفعا ولا ضرّا[4] .  أما المحجوب فقد كسر حاجز الصمت محتجا ومنذوراً له، في غياب من طمع في حضورهم فغابوا، فوظف بذلك ما قاله النبي أبراهيم عليه السلام ليسجل احتجاجه بصراخه وعدم سكوته.
وحفلت قصيدة المرأة المكان المرأة القصيدة [5]للشاعر مفتاح العماري  بعديد من مظاهر التناص القرآني حين يقول :
قلت أعوذ  بمن (يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي)
يا مكون الماء الأول
والنهد الأول
واللسان الجرىء
أعوذ بك
من الشجر المتشيىء
ومن الظلمة في النهار
و(ياأيها المدثر)
دثر الظلم بالضوء
والثلج بالنار
ثم يمضي فيقول في مقطع اخر من نفس القصيدة :
ولبرهة
هو المكان شجرة (في جيدها حبل من مسد )
ترنم الفتي
أحد
أحد
ويتجلى التناص القرآني فيما سبق في (أعوذ)، (يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي)، (ياأيها المدثر)، (في جيدها حبل من مسد) وفيها كلها جاء التناص مشابهاً بشكل تام وكامل لما ورد في القرآن تركيباً ومضموناً، لكن براعة الشاعر كمنت في وضعه لكل مفردة في مكانها لتتناسب وتنسجم مع سياق القصيدة البديعة، فصارت كأنها جزء من بنيتها كلها.
الشاعر خالد زغبية أستحضر الآية القرآنية الكريمة (رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ ۖ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ)[6] في قصيدته ايقاعات متداخلة [7]حين يتساءل متعجباً:
ماذا جنت يداه
لكنما هذا جناه..
والده وماجنى على احد
(..وماللظالمين من انصار..).
بينما استغل الشاعر عمر الكدي بنية النص القرآني وصاغ هذه البنية بشكل شعري مؤثر في مقاطع متعددة من قصيدته الطويلة منفى [8]معبراً وفي كل مرة بشكل أخاد مختلف عن الام الغربة وما يعانيه وهو في المنفى بعيداُ عن وطنه . ونلمح هذا من قوله :
كأنك على الصراط تمشي
وتخشى أن تسقط في الجحيم
وفي هذا تناص مع الآية الكريمة (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيْمَ. ٍ)[9]
والصراط المستقيم في التفسير هو الإسلام وهو الطريق الذي لا اعوجاج فيه  وكأن عمر الكدي يشير لصعوبة ان تمشي دائما في طريق صحيح، معبراً عن خوف دائم وقلق مستمر من أن يحيد  الشاعر عن هذا الصراط فيسقط في الجحيم .
تم تتوالى حالات التناص عند الكدي في هذه القصيدة فنلمحه بشكل واضح حين يصف بعض مظاهر الجمال في وطنه الثاني هولندا فيقول:
أينما وليت وجهك ثمة ماء
أيها الماء يا روح الحياة
كم شكلاً لك وكم جسد؟
وأيضا حين يقرر ببساطة التباين والاختلاف بين وطنه الأول ليبيا ومنفاه ووطنه الثاني هولندا ويوظف ببراعة ويسر شجرة الزيتون ، وشجرة التين لتكتمل حكاية التناص عند الكدي مستشهداً بقسم الله تعالى في كتابه العزيز بهما (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ  وَطُورِ سِينِينَ)[10]
فيقول:
لا تين ولا زيتون في هولندا
ولا طور سينين.
أما الشاعرة رحاب شنيب فقد وظفت جانبا من القصص القرآني في قصيدتها أحلام حافية فقالت في مقطع منها :
هزي إليك
بجذع الحب
و أمشي حافية
ما بين مبتدأ القصيد
و قافية
ويتضح بشكل جلي الموسيقى الجميلة في المقطع السابق، ويعكس مدى تمكن الشاعرة وبراعتها في توظيف القص القرآني في القصيدة لتكتمل الفكرة وتزداد جمالاً بعد تناصها مع ما ورد في سورة مريم بقوله تعالى: (وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا)[11]
وتمضي الشاعرة وفي نفس القصيدة فتوظف شخصية من الشخصيات القرآنية تخاطبها بشكل مباشر وأسر فتقول:
يا امرأة فرعون
هبِّ قلبك
للتعساء
ذوي القلب الخاوية
فيما تحذو الشاعرة أم الخير الباروني حذو الشاعرة رحاب شنيب فتوظف قصتا سيدنا موسى وسيدنا يونس عليهما السلام في قصيدة جميلة ورد في أحد مقاطعها :
قتلتك
وتزعم ان نداء راودها بخفوت
(ألقه في اليم)
وتدري أنك لست بموسى
لتنجو في التابوت
وماكنت ليلقمك الحوت
وبحسب اطلاعي ومتابعتي المتواضعة لبعض نتاج الشعر الليبي، لمست أن سورة يوسف وقصته في القران الكريم نالت حظا أوسع واوفر من باقي سور القران الكريم وقصصه فوظفوها في الوقت والمكان والسياق الذي يناسب كل قصيدة وكل شاعر فحضرت في المجمل شخصية سيدنا يوسف عليه السلام بكثرة في نصوص الشعر الليبي فنجد مثلاً الشاعرة رحاب شنيب تورد اسمه صريحا حين تقول:
يوسف بالبئر
ليس الذئب آكله
بعض القلوب
تبقى
وحوشا ضارية
تم تختم قصيدتها على النحو التالي:
صوتنا المسلوب
قد من دبر
وأحلامنا سكبتها
روح باكية.
والشاعر عبد اللطيف المسلاتي تتناص بعض مقاطع قصيدته الشهيرة ارهاصات زمن السقوط  مع بعض مفردات واحداث سورة يوسف في القران الكريم حين يقول :
أيتها العير أناشدكم
متى ترتفع الراية فوق الذل وفوق العار، وفوق الهون)
والجمع شتات، فما بال النسوة يا هذا؟
تعشق كهلاً
تنجب طفلاً
وتنام عن العورة دون حياء
روح باكية.
وزخرت قصيدة النافذة [12]للشاعر رامز النويصري  ببعض التناصات القرآنية  من سورة يوسف استلهمها رامز بجمال وأيضا بكتمان لم يبح به لكن القارئ أو السامع النبيه يمكنه أن يكشف ذلك من خلال هذا التناص الموفق الذي يدل على معرفة كافية بإشراقات القران الكريم من جانب الشاعر حين يقول :
راوْدها
وقل َّ قد من قـُبل
أبعـد َ ألفك عن  لامِها
وهي الآية
أن تظل َّ تاءها على الباب
وفي مقطع اخر من نفس القصيدة يتساءل الشاعر:
لمـا يا أمي علمتهم حلمي
لم يكيدوا،
اختصروا الطريق إلى العزيز،
قالوا: ستـحلم بهن
وأخيرا هذه كانت بسطة سريعة موجزة وقراءة عابرة لبعض النصوص الشعرية الليبية التي تضمنت بعض التناصات القرآنية، والتي عكست مدى اهتمام الشاعر الليبي ومدى تعلقه بالنصوص القرآنية الصريحة منها او المضمرة، وفهمه لها ولدلالتها ومعانيها، وعكست أيضا مدى قدرته على توظيف قصص القرآن الكريم والشخصيات الواردة في محكم آياته في نصوصه الشعرية.

___________________________________________________________

[1] سعيد يقطين ، انفتاح النص الروائي النص والسياق، منشورات المركز الثقافي العربي،الدار البيضاء المغرب ، الطبعة الثالثة 2006

[2] عبد المنعم المحجوب  قصيدة النجوم نشرت بمجلة أطلس الالكترونية بتاريخ 27 يوليو، 2017م ..http://atlasview.net/?p=1924
[3]  الآية 82 من سورة الشعراء
[4] جامع البيان عن تأويل آي القرآن، لابي جعفر محمد بن جرير الطبري، تحقيق عبدالله بن عبد المحسن التركي ،مركز البحوث والدراسات العربية والإسلامية ، القاهرة ،الطبعة الأولى 2001م
[5] مجلة الفصول الأربعة ، السنة التاسعة  العدد (35) ، شهر ديسمبر 1986
[6] الآية 192 من سورة  ال عمران
[7] مجلة الفصول الأربعة ، السنة التاسعة  العدد (34) ، شهر سبتمر 1986
[8] عمر الكدي، منفى ، مجموعة شعرية من إصدارات كتاب المستقل  القاهرة  2015م
[9] سورة الفاتحة الآية 6
[10] الآيتان 1 و2 من سورة التين
[11] الآية 25 من سورة مريم
[12] ،رامز رمضان النويصري، النافذة ،منشورات موقع بلد الطيوب(26)  2010م

مقالات ذات علاقة

الصحافة كفضاء عمومي للمبدعين

ميسون صالح

هل حقاً الإسلام في الأسر؟

علي عبدالله

التاريخ وبناء حكاية الرواية الليبية

عبدالحكيم المالكي

اترك تعليق