قصة

دبل براندي

تصوير: حسن التربي.

 

سحب كارلو كرسي من كراسي مقهى سعيد الحظ يواجه شط البحر وتحرسه أرواح وأشجار حديقة تقدس أشجارها الهدوء، وتعشق ازهارها وطيورها ودروبها هواء وسماء واطلالة شمس الرب. رمى بثقل ما يحمل كيانه الى حضن ذاك الكرسي.

وبعد أن طلب من النادل فنجان قهوة اسبريسو، ضاع لبعض الوقت بين سطور اوراق كثيرة مبعثرة بداخل أرشيف مثقل تحمله جمجمته. ايقضه من ضياعه في زحمة أوراق عقله صوت النادل الذي احضر له فنجان القهوة. شكر النادل وحاول العودة لنقطة بداية ما ولصلب موضوع ما لكنه فشل. لم يكن صوت النادل او صوت الموسيقى القادم من جوف المقهى وراء فشل محاولة كارلو في العودة الى ما كان يفكر به، بل فحوى الحديث العابر الذي دار بين زبون للمقهى كان يجلس بالقرب منه وبين صديق ذلك الزبون الذي وصل للتو.

– مرحباً، أخيراً وصلت

– نعم وأنا متأسف لتأخري

– لا داع للاِعتذار..المهم أنك أتيت

– قضيت وقتاً أطول من المعتاد في البحث عن مكان للسيارة بالقرب من هنا. هل سمعت عن الحادث الذي وقع هناك منذ قليل

  أمام المدخل الجنوبي للحديقة؟

– لا لم أسمع لكنني رأيت سيارة اسعاف مسرعة في ذلك الاتجاه منذ قليل. ما الذي حدث؟

– لا أدرى بالضبط، فاِيجاد موقف للسيارة أخذ كل تركيزي، وما رأيته من خلال الازدحام هناك هو رجال الشرطة والاسعاف وجسد

  مغطى وبجواره عكاز أزرق المقبض..قد يكون الضحية أحد المسنين او…..

***

غمامة سوداء من الحزن والأسى والخوف غمرت وجود كارلو ولفّت كيانه بعد استماعه بدون قصد لذلك الحديث العابر بين الصديقين. درجة حرارة ذاك اليوم كانت لاتزال مرتفعة لكن كارلو أحس برجفة برد تدك بدنه. أشار للنادل بأن يحضر ففعل.

– يبدو أن قهوتنا أعجبتك مجدداً وتريد فنجاناً آخراً منها؟ قال النادل.

– لا، او نعم نعم، القهوة جيدة لكن احضر لي “دبل براندي” من فضلك. هكذا قال كارلو متلعثماً.

– دبل براندي؟ حاضر. سأحضره في الحال.

بحث كارلو عن المزيد من ثقل كيانه ليتمكن من الغوص أكثر بين ثنايا الكرسي. عصر الحزن قلبه وانتزع الألم بقايا ذكرى رائعة وجميلة عاصر أحداثها قبل حضوره الى هذا المقهي حوالي نصف ساعة مضت.

هل تريدون معرفة ما حدث؟ اتحبون سماع صدى تردد نواقيس ما لا يُنسى من ذكريات؟ حسناً، دعوني أقص عليكم بعضاً مما رآه كارلو من أحداث قبيل مجيئه للمقهى.

***

هبط عصفور جميل على حافة مقعد خشبي عتيق يلفه الصمت في ركن منزوي بحديقة نساها عشاق الزمن الذي مضى. صدح الزائر الرشيق بما يجول بداخله ثم سكت لثواني بسيطة من عمر الزمن. فَرَدَ العصفور جناحيه لنسمة بحر عابرة وطار ليختفى بين اغصان شجرة ناعسة.

اقتربت سيدة تجاوزت الثمانين من عمرها ببطء شديد من المقعد وجلست في هدوء. اخرجت متأنية من حقيبتها وردة بيضاء، قبّلتها في حنان مهيب ثم وضعتها برفق فوق المقعد. تحسست بلطف اطراف اوراق الوردة. اخرجت من جوف حقيبتها الانيقة كيساً به قطع خبز ووضعت بعضاً منها بجوار الوردة فوق حافة المقعد وجلست في صمت تنتظر. كانت تحاول توجيه نظراتها الحزينة باِتجاه الافق البعيد، لكن التفاتها من حين لآخر نحو الوردة وقطع الخبز فوق المقعد جعل التركيز على تطلّعها نحو الافق  صعباً.

التفتت السيدة رائعة الحضور نحو المقعد والوردة وقطع الخبز ثم قالت – قبل أن أنسى..اليوم ذكرى زواجنا كما تعلم..لقد احضرت لك ولي كأسين من البراندي لنشربهما معاً.

تظاهرت رائعة الحضور بأنها تسكب كأسين من الشراب قدمت الأول منهما لمن تخاطبه واحتفظت بالكأس الآخر. رفعت الكأس بين أصابعها (في خيالها) بشكل أنيق وفي هدؤ في الهواء باتجاه الوردة البيضاء وتمتمت بأماني جميلة لمن كانت تخاطبه. شربت كأساً من صنع خيالها ثم سكتت.  بعد مضي ربع رطل ثقيل من الزمن، تنهدت السيدة في أسى ثم قامت لتقف ببطء شديد بعد احتضان كف يدها المتجعدة التقاطيع لعكازها ذو المقبض الأزرق اللافت للنظر.

لم تستجب فقرات عمودها الفقري لطلباتها فظلّت منحنية، نصف جسدها يحاول معانقة السماء، والنصف الآخر تشاكسه الجاذبية الأرضية. مسحت باليد الاخرى افرازات قناة دمعية متعبة وقالت في آسى – لقد تأخر اليوم عن المجئ..ربما من الافضل ان اذهب اليه..انا لا أدري..سيعجبه أن التحق به وهذا يريحني..لقد تأخر اليوم في المجئ.

خطت بضعة خطوات مستندة على عكازها ذو المقبض الأزرق لتبتعد عن ذلك الركن ثم توقفت.التفتت ورائها. تطلّعت باِتجاه المقعد وأهدته ابتسامة روعتها نادرة. ادارت رأسها نحو درب ينتظرها، ثم تابعت خطواتها الثقيلة والبطيئة وهي تتمتم- تأخر اليوم..نعم لقد تأخر..سألحق به..ذلك سيكون أفضل.

كان كارلو يجلس بالقرب من مسرح ذاك الحدث، وتابع في فضول ما صدر عن تلك السيدة من قول وفعل.

ابتسم وهو يشعر بسعادة خالصة تنبع من داخل وجدانه.

قال مخاطباً ذاته – يا لروعة هذا الوفاء!

​ ***

2017/8

مقالات ذات علاقة

ذاكرة زرقاء 4

هدى القرقني

الشبح

خيرية فتحي عبدالجليل

هـواوي

الصديق بودوارة

اترك تعليق