سرد

فصل من رواية «الروائي»

الكاتبة وفاء البوعيسي وروايتها الراوي

ترقرق المساء في انعكاس النجوم المتوهجة، وتسلّقت أوراق اللبلاب الداكنة الأعمدة الخشبية للبيوت بإصرار، تصاعد دخانٌ طيب الرائحة من فجوات بعض الغُرف، ذكّر جودي برائحة الدُهن المتبّل بالأعشاب، التي كانت تشمها أول ما قدِمت للجزيرة، لكن الرائحة لم تُشع فيها أي ذكرى، انعطفت يساراً عند دربٍ مُضاءٍ جيداً، بمصابيح الزيت المعلّقة على الأغصان، سائرةً بهمةٍ نحو البحيرة. الطين كان بارداً ولزجاً تحت قدميها، لكنها لم تكترث، وضعت السلة الكبيرة بيدها جانباً، تفحصت شِباك الصيد التي تخلّى عنها كنان، قاست أطوال كل واحدة عثرت عليها، طرحتها على الرمال بعيداً عن الطين الدبق، وحين وقع اختيارها على واحدةٍ طويلةٍ وغير مثقوبة، لملمتها على الفور، وضعتها في السلة، وذهبت نحو أحد الأطواف، شدت الحبل الذي يوثقه بحجرٍ ثقيل إلى اليابسة، وضعت الحجر فوق الطوف، ودفعته صوب الماء بصعوبة. شعرت بثقل الطوف، على سلاسل عمودها الفقري، وهي تواصل دفعه بقوة، وحين لامس الموجات وانجذب إلى الماء، قفزت فوقه وهي تجذب معها السلة بقوة.

ـ ماذا تفعلين يا جودي؟ ارجعي، أنتِ لا قِبل لكِ بالصيد. صرخ أحدهم على الشاطئ وهو يركض خلفها. ـ جودي، نحن لا نصطاد في الليل، هذا خطر. ـ اتركها. قال حسّان. ـ يا رجل، إنها لا تعرف شيئاً عن الصيد. ـ جودي تكتب روايتها.

كانت جودي تجدّف وتجدّف في الماء مثل ملاحٍ مرح، الريح منعشةٌ رغم رخاوتها، والنجوم المتأخرة في السهر لم تضجر بعد، الخُلجان في البحيرة تشبه انبعاثات بحرٍ ناءٍ، والأوراق الخريفية التي ألقتها الرياح، شكلّت مجالد متوحدّة، لم تجروء الزُرقة على تبديدها بعيداً. تجمَّع السديم الأزرق في الأفق، والطبقات الطويلة للأمواج الرائقة تراكمت كسريرٍ له، ولمعان النجوم الوافرة أعلى رأسها، صارت كأنها قوتٌ لجودي، سرى ضوءها على الماء، متلألأَ من نجمةٍ إلى أخرى، كخطٍ شارد في لوحة سوريالية، تأرجح الطوف قليلاً لكنه عاد وثبت، وحين اقتربت من صورة القمر المرتسمة على صفحة البحيرة، توقفت للفور، نهضت بحذرٍ شديدٍ وهي تراقب ترجرج الماء تحتها، ثم رمت بالحبل الموثوق إلى الحجر حتى طرطش الرذاذ بقوة على شعرها ووجهها، فندمت أنها لم تفعل ذلك بمنتهي ما تستطيعه من رفق، كي لا تُزعج استدارته، وتُمِيِّع من حجمه وصورته المنعكسة على الماء. أعادت ترتيب الشبكة بين يديها بعناية، ثم ألقتها بكل قوتها على صورة القمر، وراقبت بجذل تشكّل صورة المربعات التي تتخلل الشبكة على السطح، حتى غارت فيه وعاد للصورة بهاؤها الأول، وجمدت منتظرةً.

مضى الكثير من الوقت، شعرت جودي بخدر بسيط في ذراعيها، ويديها المضمومتين على الشبكة، فحركتها برفق شديد مختبرةً وزنها، وحين شعرت أنه لم يتغير، عادت تنتظر بصبرٍ وهمود. لم تدرِ جودي كم مرّ من الوقت وهي تنتظر، لكنها خمّنت أن الوقت قد جاوز منتصف الليل، فقد خبت الأضواء وتخافتت الأصوات على الشاطي، ففكرت أن تختبر وزن الشبكة للمرة الرابعة، فهزتها برفق وحنان، اعتكرت صورة القمر على الماء، لكن استدارته لم تتميّع، عرفت أن الشبكة لم تعلق لخفة وزنها، فعادت تنتظر بصبر، وتصميم.

تأرجح الطوف بجودي فانتبهت بقوة، كان الفجر ينتشر بالمكان بخجل متعثراً خلف أكوام السحاب، وبيدٍ مرتعشة يخزها البرد في المفاصل، حرّكت الشبكة للمرة التاسعة تلك الليلة، وحين لم تشعر بأي وزنٍ زائد، قررت سحبها بهدوء والعودة للشاطئ، لملمت شبكتها بأهدأ ما رمتها به، ثنتها بهدوء بعد أن نفضت عنها الماء، وضعتها بالسلة واستدارت بالطوف عائدةً للجزيرة.

*****

تجثو جودي مقرورةً على الطوف طوال الوقت، تداوم على هذا مرةً تلو المرة، تتكبّد عناء الليل كل مساء، تستحم بالنجوم وتنتظر بصبر أن يقفز القمر في سلتها. يظهر القمر كل مساءٍ على سطح البحيرة، والجميع هناك على التراب لا يعرفون شيئاً عن أطواره، وهو يستلقي بضجر أحياناً، ويتململ مع كل موجةٍ، أو يتمدد ببذخٍ أحياناً أخرى، متجاهلاً كل شيءٍ حواليه، يغازل الأحبّاء في كل سماء يُحل بها، يتخلل بطاقات المعايدة، وشعور الحبيبات، وأغصان أشجار الجوز بكل غابة، وقصائد المتيمين، يمنح اسمه بجذل للجميلات، ويتسلق النوافذ ليضئ سرير عاشقين ملتحمين طوال السهرة.

أرعشت جودي يدها التي تُمسك بالشبكة للمرة الخامسة، لكنها مع ذلك لم تُفلح إلا في تشتيت صورته المستريحة باستفزاز أمامها، وللمرة المئة ربما لا يستجيب القمر، ولا يقفز إلى السلة، لكن القمر لا يعرف جودي، ففي كل ليلة يغرق الجميع على الشاطئ في النوم، وتظل هي صاحيةً، كما الموج لا تنام ولا تفتر، وكما الموج لا تفتأ تذهب وتجيء في مناورتها لإصطياده، ومع الشبكة لا تنسى أن تُلقي بأمنيتها عشرات المرات، وبتلك الليلة قررت أن تضع موسيقى كنان في خلفية المشهد، لتسليّها وتطرد البرد من سلامات أصابعها، وفي تلك الليلة، أخذتها موسيقى كنان من يدها وقدمتها إلى القمر. رأته أكثر ابيضاضاً من حلم، مفروشاً من الداخل بزغبٍ من الصفاء، والحب فيه لونه أزرق شاحب، دلفت الموسيقى بها إلى عزلة، وأجلستها على ضفة اسطورة خالدة، وبنهاية الزقاق وجدت كل النوافير ووجدت أغنية، وأشجار حور تتحدث عن نفسها، وأعيادٌ ترقص. سارت في الممشى المشجّر بالأمنيات المستحيلة، قرأت ملايين القُصاصات مشدودةً إلى عروق القرنفل، لمست آلاف الأشرطة الحمراء، تنزّهت وسط أكوام الهدايا، دارت دورتين حول جادة البلوغ، وبيدها المعروقة بالإنتظار والوله، قبضت على فرخ النور، وسحبته من حضيض الأعالي إلى ارتفاع السقوط في سلتها. وقفلت عائدةً للجزيرة.

مقالات ذات علاقة

مقطع من رواية: الزئبق

فتحي محمد مسعود

مقطع من رواية: الأشواجند

فتحي محمد مسعود

حكايات الغروب

سالم الكبتي

اترك تعليق