المقالة

أحجية الأصل والجنسية

إذا أراد الليبي مدحك بعمق سيُسارع بالقول: «إنت بنت/ ولد أصل»! بينما إذا أراد هجوك بقسوة فسيسارع إلى نزع الجنسية الليبية منك وكأنها ورقة موضوعة أمام مكتبه، بل وسينزعها بسهولة من جدك السابع إذا ما سمع (ولو إشاعة) أنه لم يولد في ليبيا!

ربما لأن هؤلاء يعجزون عن التفريق بين الجنسية والأصل، فلا يعرفون أن الأصل «حق جيني» (مُوَرِّثي في الفصحى) بغض النظر عن مكان الميلاد والإقامة، نتوارثه أباً عن جد، مفروض علينا، ولا يمكننا اختياره ولا نملك تغييره، بينما الجنسية «حق قانوني»، يكتسبه المرء إذا طابق شروط قانون الجنسية في البلد التي يطلب جنسيتها، فالدول تضع شروطاً محدّدة مختلفة، غير أنها تتفق في أساسيات، كالإقامة المتواصلة لسنوات معينة، وحسن السلوك طوال هذه السنوات، أي نظافة السجل الجنائي، أو المساهمة في الرفع من اقتصاد البلاد، كإيداع مبلغ مالي كبير في أحد مصارف الدولة يساهم في تنميتها مقابل الحصول على فوائده السنوية، وفي هذه الحالة يستلم جواز سفر الدولة مباشرة! بعض الدول تمنح جنسيتها لمن قدم خدمة جليلة عظيمة للدولة التي يريد جنسيتها سواء لأمنها القومي أو لاقتصادها، أو بحث علمي يُشَرِّفها، كأولئك الليبيين (سابقاً!) الذين نالوا التقدير من الدول التي هاجروا وأقاموا فيها ولم نتوقف عن التسلق على نجاحهم بعد أن أهملناهم قبل اشتهارهم!

وهكذا فالمواطن «التشادي» من أصل ليبي لا يعني أن من حقه الحصول على الجنسية الليبية تلقائياً! لأنه تشادي الآن وفق قانون الجنسية التشادي، ولابد له من بحث مدى انطباق قانون الجنسية الليبية عليه إذا قرر أن يكون ليبي الجنسية، من إقامة وحسن سيرة وتقديم خدمة أو اختراع، وهناك كذلك الكثير من الليبيين الآن الذين يعيشون منذ أجيال على الأرض الليبية أصلهم تركي ويوناني وأندلسي، فهل يمكنهم الحصول على جنسية تركيا واليونان وأسبانيا بمجرد إبداء رغبتهم؟ طبعا لا، سيقولون لهم: «أصلكم على راصنا من فوق»، لكن الحصول على الجنسية إجراء قانوني بحاجة إلى إقامة قانونية حسنة طويلة ومحامي وحُكم محكمة في النهاية، وبعد سنوات من دراسة ملفك ربما يُرفض طلبك!

بنفس المعايير يمكن إشباع هوس الانتماء لمدن معينة عند الليبيين الذي تأتي أهميته بعد الأصل مباشرة في ليبيا! فالكل يسخر من مدن الكل، والكل يشكك في أصل سكان أكبر المدن الليبية ولو مر على إقامتهم فيها مئات السنين! لكن الانتماء لمدينة ليبية هو صورة مصغرة من الانتماء للبلد، أي إما أن يكون عبر الحق الجيني أو الحق القانوني كذلك، فالحق الجيني يكتسبه إذا كان سليل أسرة تقيم و«تولد وتستالد» كما نقول في تلك المدينة منذ مئات السنين، بينما يكتسب الحق القانوني إذا سكن وعمل وأقام فيها إقامة دائمة طويلة دون الإضرار بسمعتها واقتصادها، أو قدم خدمات جليلة لها لم يقدمها أصحاب الحق الجيني فيها.
عموماً ليتنا نتجاوز هذا النقاش البيزنطي الذي تجاوزته المجتمعات المتحضرة! فليبيا لن تبنيها شجرات الأصل، ولا شهادات الإقامة، وإنما العِلم والعمل كما ردّد الأجداد، لذا لا أمانع في استيراد حتى كوادر إدارية كاملة من الخارج في هذا الظرف المنهار من حياتنا إذا كان فيها الخلاص من فسادنا الإداري والمالي والأخلاقي، وبالمناسبة هذه هي الفكرة التي طبقتها الإمارات في إداراتها العليا منذ استقلالها، وذلك باستجلاب خبراء أجانب وتكليف نواب لهم من مواطني الإمارات «يتعلموا منهم الصنعة».

لا ننسى كذلك أن بعض أقوى وأرقى الدول (أمريكا وكندا والأرجنتين والبرازيل مثلاً) ليست سوى دول «بلا أصل» إذا طبقنا معايير الليبيين عليها! فبعض رؤسائهم ووزرائهم من أصل عربي أو أفريقي بائس فقير لم تمض على إقامتهم جيل واحد!

فلنبحث إذاً مثلهم عن المواطن ذي الكفاءة والخبرة والوطنية، نعم من الجيد أن يكون ليبياً أصيلاً، لكن أعرف معاني الأصالة والجنسية الليبية، فهي ليست هبات تمنحها وتنزعها بمزاجك.

__________

نشر بموقع المستقل

مقالات ذات علاقة

تجارب

منصور أبوشناف

القيمة المضافة كمدخل لمفهوم الحرية

جمال عبدالقادر أمهلهل

مسامير لغرض الإصلاح

المشرف العام

اترك تعليق