قصة

أخـيراً قـالـت لا

 

رب قل للجوع يصبح شبعاً وانقذ الطهر الذي قدسته

أو مرالفسق فيغدو ورعــا ً إن يكن شرًا فلم أوجدتـه

بشارة عبد الله الخوري من قصيدة ( ربِ.. قل للجوع (

ذهبت لتنفذ أوامره، اعتادت على ألا تقول “لا” وألا تجادل، ليس مع مديرها في العمل فقط بل مع كل من عرفتهم في حياتها، مع هذا شتمته في أعماقها قائلة بمنتهى المرارة: سحقاً له، مئة وثمانون دينار لأجلها أعمل ليل نهار، سكرتيرة في الصباح وفرَاشة ما بعد الظهر وعشيقة آخر الدوام

كادت أن تفر منها دمعة أسى، بيد أنها اعتادت على وضعها تأقلمت مع حياتها الصعبة استسلمت لقدرها وأدركت أنه لن يتغير إلا بمعجزة.

 منذ طفولتها التعيسة التي لم تنعم بها كانت دائماً مطيعة حد الانكسار،لازالت تذكر تفاصيل ذلك اليوم، عندما كانت تبكي لأنها لم تحظَ بلعبة مثل باقي الأطفال في عيد الطفل، فما كان من والدتها إلا أن فتحت لها جزدانها العتيق وأخرجت منه بضع دنانير ونهرتها بقولها: هذا كل ما نملك لنسد به رمقنا حتى أخر الشهر أن اشتري تلك اللعبة سنموت جوعاً، نحتاج لهذا المال لنأكل أنا وأنت ِوأخوتك الصغار فوالدك رحل ولم يترك لنا غير البؤس والشقاء.

منذ ذلك اليوم، لم تعد تحلم ريم بشراء الألعاب، أدركت أن هناك ما هو أهم من الألعاب وأقنعت نفسها بذلك، وعززت قناعاتها في نفوس إخوتها، فكانت تخبرهم أنه بإمكانهم أن يصنعوا ألعابهم بأنفسهم ولا حاجة ليبددوا المال على الألعاب الجاهزة، لذا كانوا يحرصون على أن يحتفظوا بكل شيء قديم، يمكن أن يتحول إلى دمية قماش أو سيارة أو كرة من القطن والخِرق البالية، فلم يرموا قط الجوارب الممزقة أو علب الطماطم والزيت و قنينات الزهر وصناديق الأحذية.. فكل ما كان يقع بين أيديهم الصغيرة كان يتحول إلى ألعاب، يتسلون بها..

حاولت أن تعرف سبب هجر والدها، لكن ملامح والدتها الجادة والقاسية ما كانت لتجيب عن أسئلة ريم، لذا اعتادت على ألا تسأل، وبمضي الوقت أجبرتها والدتها على ترك المدرسة لتهتم بشؤون البيت في غيابها في حين تعمل هي خارج البيت فرّاشة في أحد المستشفيات الحكومية.

مع هذا لم تكن تلك الملاليم تكفيهم، ولم تكن ريم تطمع أن تنال من تلك الملاليم غير ثمن رغيف خبزها.

كانت ريم تجهد نفسها من أجل العناية بإخوتها الصغار وتربيتهم والأهم ترضية والدتها التي لا شيء يرضيها، حقدها على زوجها الذي هجرها لأجل أخرى وشقاؤها اليومي أنعكس على شخصيتها فأصبحت أكثر قسوة.

وتمضي السنوات سريعة بطيئة على ريم وترى أشقاءها يكبرون أمامها ويكبر حملهم معهم وطلباتهم تزداد ويزداد العبء على والدتها التي من فيض غيظها ومن حسرتها على عدم تمكنها من توفير احتياجاتهم فإنها لا تجد غير الصراخ في وجوههم وضربهم وشتم والدهم ليل نهار الذي تركها تعاني لوحدها، لقد أصبحت كالشبح، بملامحها المتصلبة، ولونها الأصفر، ونظرتها الخاوية، كانت تعود إلى البيت مثخنة بأحزانها، بألمها منهكة الجسد والروح، لذا كانت تتجنب الحديث مع أبنائها، كل ما تفعله هو الولوج لفراشها للراحة والنوم، في حين تكفلت ريم بدور الأم والأب معاً، وباستياء صحة والدتها في الآونة الأخيرة، أجبرتها على أن تبحث عن عمل لتساعدها، لم ترفض ريم الفكرة، مع أنها كانت تعي جيداً،إنه ليس هناك ما يبشر من أن تتحصل على عمل وهي لا تملك شهادات، ولكن والدته طمأنتها بأنها ستترك العمل في العيادة الخاصة وستخبر المدير أنها تود أن توظف ابنتها بدلاً عنها، ورغم أن ريم شعرت بالوخز في أعماقها لكونها لو أتمت تعليمها لحظيت بعمل أفضل من هذا وأكثر احتراماً، مع هذا لم تعترض ووافقت، وعندما ذهبت لمقابلة المدير في الصباح التالي تفاجأ بصغر سنها وجمال وجهها ومحياها، وشعر أن هذا العمل لن يكون مناسباً لها، لذا أرسلها لصديق يبحث عن سكرتيرة، كان يدرك رغم تعاطفه معها أنه لا أمل لها أن تعمل عند صديقه حتى بعد تلك التوصية الملحة لذاك المدير لكي يقبلها مع هذا علق أمل قبولها على جمال وجهها وقوامها وهذا ما يبحث عنه أي مدير في هذا الوقت.

عادت ريم للبيت تجر أذيال خيبتها وراءها وهي تبكي فحتى هذا العمل لم تستطع أن تحظى به،وفكرت أتراه سيقبل بي هذا المدير الآخر دون مؤهلات تساعدني على العمل، لم تفكر طويلاً وإنما قررت أن تقصد العنوان الذي أعطاه لها في صباح اليوم التالي، وعند وصولها كان في انتظارها فقد أخبره صديقه أنه لا مؤهلات لديها لكنها بإمكانه أن يجربها، لفترة قصيرة غير متناس أن يخبره بصوت خبيث بجمال وجهها وتناسق قوامها وصغر سنها.

عندما دخلت رغم ازدراء مظهرها فإنه لم يكترث فقط اخذ يحدق بها ثم أمرها بالجلوس بعد أن التهمت نظراته جسدها الصغير.

قال لها وهو يشعل سيجارته بترفع:أعلم إنك لا تملكين أية مؤهلات ولكن حدسي يقول لي إنك ذكية.

ثم تابع بلهجة مترفعة حديثه قائلاً: إنه بوضعها هذا لن تجد مكاناً تعمل ولن يقبل بها أي أحد ولكنه وعدها بأنه سيساعدها مادياً وسيتكفل بمصاريف دورات مكثفة في الطباعة واستخدام الكمبيوتر، وبالتالي يمكنها أن تحسن وضعها و حينها بالطبع يمكنها أن تتحصل على الوظيفة وتعمل لديه..

لم تعترض ولم تقل “لا” رغم الحمرة التي اعتلت وجنتيها مما زاد من جمالها أكثر، ولم تحاول أن تعرف لما يساعدها، وفعلاً بدأت في خوض تجربتها الجديدة ونجحت بتفوق فقد كانت ذكية تستوعب كل ما يقال لها، وكانت خلال فترة تعليمها تتردد على المكتب لتقوم ببعض الأعمال البسيطة وتأخذ الأقساط الشهرية باستمرار من رب عملها الجديد، واخذ يغدق عليها في العطاء فلم يعد يعطيها نفقات تغطي تلك الدورات بل أصبح يدفع لها أكثر مما يجب، لم تكن تسأل لماذا، فقط كانت تبتسم له في كل مرة، وتسرع لوالدتها لتعطيها ما زاد عن حاجتها.

بعد مضي ثلاثة أشهر أصبحت ريم مؤهلة لأن تعمل سكرتيرة في إي مكتب، رغم قلة خبرتها لكنها أدركت أن جمالها، وقوامها، وابتسامتها المغرية، ستسهل عليها الحصول على وظيفة، غير أن ذلك المدير كان عند وعده، وعيَنها عنده في مكتبه وخلال فترة قصيرة، استطاعت ريم أن تثبت جدارتها في العمل، كانت تجهد نفسها عرفاناً بالجميل.

غير أن ذلك المدير أخذ يتمادى في تصرفاته معها، لكنها كانت تقنع نفسها إن الأمر عادي وتقول ما الذي سيؤثر لو أن تلامساً طفيفاً قد حدث بين أصابعنا أو أجسادنا فهذا طبيعي فنحن نعمل في مكان واحد،ولكن الأمر مع الوقت تعدى تلك الملامسات الطفيفة وأصبح المدير يمسك يدها بعمد كلما دخلت عليه المكتب لتعطيه شيئاً، وكانت عندما تعرض عليه أوراقا ليوقعها أو يطلع عليها كان يطلب منها أن تقترب منه أو أن تأتي بجواره فيطوق خصرها بيديه أو يمسح بكفه على وجهها أو يزيح خصلات شعرها بأطراف أصابعه، أما هي فرغم ارتباكها وخجلها فلم تكن لتمانع فقط تلتزم الصمت، وكانت كلما صمتت كلما ازداد عطاؤه وأغدقها في نعيمه أكثر،إلى حد أنها خلال وقت قصير، استطاعت أن تشتري ملابس وان تحسن وضح البيت وأن تبعث الابتسامة في وجه والدتها من جديد.

ولكن ذلك المدير أصبح يتمادى كثيراً وأصبح لا يتوانى عن إغلاق المكتب لينفرد بها، وينال منها كل ما يريد في دقائق، أما هي فكانت كالصنم لا تتفوه بكلمة فقط تنتظر أن ينتهي منها لتعود إلى مكتبها، وترتب ملابسها وتعيد أحمر شفاهها وتسرح شعرها كأن شيئاً لم يكن.. في داخلها كانت تحترق تعاني الأمرّين فهي اعتادت على هذا الرجل وأصبحت تميل له بشدة لكنها تدرك أن ما يحدث بينهم شيء دنيء ويجب أن ينتهي في أسرع وقت.

فما عادت رغم ولهها به تطيق أنفاسه اللاهثة وراءها ولا لمسات يديه الحارقة، وأصبح هو شحيحاً معها لا يعطيها إلا بقدر ما يأخذ حتى معاشها الشهري كان يتعمد أن يماطل في صرفه لها.

كانت تدرك أنه مازال شيء واحد يمكنها أن تراهن على عدم خسارته، لكنها تخشى من ضعفها ومن صمتها ومن خنوعها وعدم قدرتها على قول “لا”، وتدرك جيداً أنه لم يعد يصبر على أن تحتفظ بآخر (كرت) رابح لها، لقد سأمت المكان والبقاء وسأمت منه، وآثرت الرحيل وترك المكان ولكن توبيخ والدتها حال دون تركها المكان، حتى بعد أن حاولت ريم أن تشرح لها أنه بدأ يتمادى معها وأنها تفكر بأن تبحث عن العمل في مكان آخر،إلا أن والدتها سوغت لها إنه يحبها، ويجب أن تبقى إلى أن يطلب الزواج منها وأنهت والدتها حوارها معها بلهجة قاسية، بأنه لن ينقص منها شيء لو نال منها الشيء القليل.

 ثم أضافت بتهكم مبالغ أن يدوسك نعل رجل واحد خير من أن تدوسك نعال الآخرين لا تتوقعي أن هناك من هو أفضل منه مازلت صغيرة لم تري من هذه الدنيا شيئاً مديرك أرحم وأكرم من غيره فلا تخسريه..تلك الليلة الغصة الحبيسة في حلقها منعتها من النوم، لم تستطع أن تجادل والدتها ولا أن تقول لها ” لا ” أريد الاستمرار في هذا العمل، شعرت إن تلك اللا تخنقها، بل ربما تجمعت كل اللاءات التي لم تنطق بها في حياتها تلك الليلة، لتزيد من حجم غصتها ازدرت نفسها ووضعها وتمنت لو أنها تملك القدرة على أن تنهي حياتها فكرت في الأمر جدياً ولكن تلك العيون الصغيرة التي تنتظرها بلهفة كل يوم جعلتها تتواني في الرحيل.

فيضان القهوة وتطاير رائحتها، أعادا ريم لتذكر ذكرياتها الأليمة التي أصبح تكرارها جزءاً من جدول أعمال ذاكرتها، سكبت لنفسها فنجان قهوة وحملت له الآخر غير متناسية أن تبتسم في وجهه هذه المرة خاصة بعدما تذكرت حديث والداتها فعلاً أن يدوسها نعل واحد خير من تعدد النعال.

كانت تلك الابتسامة كفيلة لأن تجعله يحظى بصباح مشرق..

وعندما عادت في المساء،استقبلتها والدتها بترحاب مبالغ لم تعتد عليه من والدتها شعرت إن وراء هذا الاستقبال الحافل أمر ما، لكنها لم تحاول أن تسأل، ولم تنتظر وقتاً طويلاً لتعرف، فسرعان ما جاءت والدتها لتبشرها أن هناك عريساً جاء لخطبتها، للوهلة الأولى خفق قلب ريم فرحاً، لكن ما أن تابعت والدتها الحديث حتى شعرت بغصة تأسر كل أنفاسها، فالعريس الذي تطبل له والدته أرمل وله خمسة أبناء وقد تجاوز الخمسين من عمره، ويأتي صوت والدتها مطمئناً لها إنه لا يظهر عليه الكبر وهو ثري سيعينك ويعيننا وبصوت أمر أضافت: جهزي نفسك في الغد سيأتي ليراك.

بصوت مندس تخنقه العبرة خرجت من ريم لأول مرة كلمة ” لا ” وتراجعت للخلف وهي ترددها ” لا ” لن أقبل به إنه يكبرني بأكثر من ثلاثين سنة..

ولكن تلك الصفعة غير المتوقعة كانت لتجعل تلك اللا تنحسر وتعود لحلقها، ولا تتفوه ريم بها مجدداً، ولكن تلك الغصة الحبيسة انطلقت بصوت مرتفع وأعلنت ريم تمردها وصرخت بجنون في وجه والدتها

 ” لا”  في صباح اليوم التالي، حاول المدير كعادته التحرش بها، ولكنها صرخت في وجهه غير آبهة لما سيحدث، توقف لقد ضقت درعاً منك ومن أنفاسك ما عدت أطيقك أو أطيق نفسي معك اتسعت عيناه ولم تنتظر ريم أن يستوعب الصدمة وان يفيق منها ويقوم بطردها، لذا خرجت ريم صافعة الباب وراءها بشدة.

وقبل أن تغادر جاء صوته من خلفها متسائلاً: ريم هل تتزوجينني..؟

فاجأها طلبه فلطالما ألحت عليه في الفترة الأخيرة أن يفعل لكنه كان يتحجج ويرفض ويخبرها أنه سعيد بهكذا وضع فلِمَ الزواج؟، لم تكن تجادل أو تناقش فقط تصمت، وجاء صوته مرة أخرى يسألها البقاء والموافقة على طلبه..

التفتت ريم له قبل أن تغادر وقالت ونشوة الفرح تحلق في سماء عينيها: دعني أفكر ربما أقبل

ولا أقول لك “لا”..

راقبت بشرود عبر النافذة انبعاث الحياة من جديد في ذلك الشارع،ورأته من الأعلى وهو يركن سيارته وتعجبت لقدومه مبكراً على غير عادته، وتنهدت بعمق وهي تزيح خصلة متساقطة من شعرها للوراء كانت تغطي مسحة من وجهها البريء، وما هي إلا بضع لحظات وشعرت بيديه تطوقان خصرها من الخلف وهو يهمس لها صباح الخير، لم تحاول أن تفلت منه، فقد اعتادت على حرارة يديه وعلى زفير أنفاسه، رغم امتعاضها منه، لم يتحرك لها ساكن كأنها صنم واقف وردت باقتضاب صباح الخير ياح ضرة المدير، لذا ابتعد عنها وهو يأمرها بصوت متعجرف بأن تبتعد عن النافذة وأن تعود لمكتبها وعملها و تقوم بطباعة بعض الأوراق له، وأن تعد له القهوة..

ولم ينسَ قبل أن يغلق الباب بأن يتمتم بكلمات ليست مفهومة ولكنها بدت لها كأنها شتم لها، لم تنطق ولم ترد ولم تحاول حتى أن تعرف ماذا كان يقول فلا شيء مهم .

مقالات ذات علاقة

خديجـــار

سالم العبار

قصتان قصيرتان

محمد دربي

طابور

زكريا العنقودي

اترك تعليق