قصة

اللـذة الـقاتـلة

تتسابق الأيدي قاصدةً قبض الثمن.. تلطم بعضها البعض.. تنتهز فرصة تلاحم الأجساد في صورة تجسد الموت والحياة تعبر عنها جمهرة من القشعريرة الهائجة فهي الشاهدة على ما يحدث لا تعرف معنى الخجل عديمة الحياء منبعثة من أفاق الوجود الكائن (الغــريزة ).

 تتشابك الأصابع ملتوية مستقيمة تنحني تارةً وتستقيمُ تارةً أخرى.. غاضبةً..حاقدةً لا خيار لها إلا بالفوز عددها يفوق الخمسين.. وعلى رأسها تهمس الأظافر الملونة.. شاكيةً حضها العاثر..أنا الأولى أبتعدي عني..أنتِ لا تقتربي..أنا من سأفوز..أنتِ ليس مرغوباً فيكِ. يزداد همسها كغي الصراصير..وفجأةً تتجمد الأطراف على وقع السؤال.. من سينعم بالسهرة ؟ يجاوب الصمت مستغربا عزف العيون بلحن فكرة ما تطرف ستون نظرة في الدقيقة..وستون محاولة في الساعة..وأربعة وعشرون مزاجاً في اليوم..وثلاثون شخصية في الشهر… واثنا عشر لغزاً طيلة السنة لا مفر من الخروج مادامت عقارب الساعة هي من ستحسم الأمر.

 أكتاف” عارية الحضور لا مجال للنصحِ والفضول.. توزع بطاقات دعوة مجانية.. لا تجد الأنس إلا من خلال بقايا هيكل سكيرٍ يتبعثر الخمر من فمه.. يتسأل بحنق هل أقترب ؟.. لكنه يقترب ثم يقترب.. فيأخذها لا !! بل يلتهما.. هي مجرد قبلة فترمقه بنظرة التحذير ابتعد!!..يبتعد..فتبتعد هي الأخرى كاشفةً عن القناع هي إحدى نساء الليل تنتعش قليلاً ومن ثم تدسُ صفيح وجهها المحمر وتختلط بين المعازيم.

 الجمال المجنون لغة الحضور..و صدى صوتٍ يردد من إحدى الزوايا.. رجلا يتكئ على عكازه كان ذو مكانة ومنصب في الماضي يتلعثم ويبصق كسفيه يعربد ويشتم بعبارات تعلمها عندما كان صغيراً.. كثرت عليه الاختيارات فترك واجبه الدراسي.. واجتهد في القفز من على السور المدرسة.. وعندما تم تصعيده كأمين كرر نفس الشتائم للموظفين.. بداعي أنه عصبي والعلة غير ذلك.. فهو الشعور بالنقص..بسبب أنه لم يكمل دراسته كباقي زملاءه بل أختار الوقوف بين الأزقة والشوارع ومضايقة الجيران.. وألان لا أحــد يهــتم لشأنه.

صار المكان كالكوخ يخفيه الضباب من كثرة الدخانِ والشراب.. لا يتسع الحفل إلا لجنسين متعطشين لا يعترفان إلا بالرغبة. فبدأ العد والحناجر تتسابق على الصراخ والضجيج المدجج يدل على شراهة الافتراس من بنى جنس الإنسان.

 تتلون اللذة بمزيجٍ من العطورِ والروائح.. في ذاكرة الترفيه أو البصق الفوري مستعدة لفعل أي شيء من أجل تحقيق اللذة. يستنشق الجالس فيقف مذعوراً وكأنه النداء..ويجلسُ الواقف بعد طول الانتظار بعد الاعتذار..بعد الصمت الذكوري.. مستريحاً بلحظة ترحل به بعيدا في سبات الخونة يستيقظ متفاجئاً على رنين هاتفه الشخصي.. فيحدقُ بالرقم آه أنه الزوجة التائه على عتبة الانتظار والترجي.

 تقول :- متى سترجع ؟ يغمز بعينه الثملة التي ثملت قبل بدء الحفل بساعات..ويتنحنح أمامهن موجهٍا شخصيته الضعيفة..كنسرٍ هزيل يهبط بمنقاره على إحدى الجيف بعدما تركها الصقر..ويرد مرتبكا ( آه..امم.. احتمال أنتأخر ) يغلق الهاتف بإبهامه بقوة حتى يشد انتباه الحاضرات.. كالديك الذي هجر دجاجاته ثم انتقل إلى زريبة أخرى ففرح بعدد الدجاج المقيم في الزريبة..فرحل الدجاج وطلبن منه البقاء والتحضين على البيض..خاب ظن الديك.. أنه زمن التحضين يا سادة !!.

 تتكون لغةً ما تختلف عن باقي لغات العالم.. حروفها تنشقُ من.. الوقت , والليل , والشراب , وكلماتها هي كالصخور الهاوية من أعلى الجبال تنحدر متدحرجة ما إن تصل قاعة الأرض تصبح كالحجر الصغير يلتقطه الأطفال يوم العطلة.. فأهلا بالرشق ووداعاً للأدب والاحترام معا..بتربية مفادها ( خلي يلعب مازال صغير )آهكذ يرتدي الأب قبعة الحماقة.. والطفل ببراءته يستمع.. وألام في غيابها لا تعلم.. والنتيـــجة يخرج جيل يعشق الرشق بالكلام ( التســـفيه ) ويتباهى باللعن.. بسبب أن المجتمع ومؤسساته لم يساعدا الآباء أو تأهيل الآباء في صيغة أخرى..أو الحاجة جعلت الجميع يركض وراء لقمة العيش.. وبات معظمهم يرجعون إلى بيوتهم في نهاية النهار..فمتى سيبقى الآباء في بيوتهم ؟ أو أن بعض الآباء كانوا أشقياء في تلك الحفلة.. كـــان ولم يكن.

 تحطُ اللغة بأبجديتها..بمعانيها في نفس المكان.. وفي نفس الزمان وفي نفس الساعة.. تُطبق اللغة تحت مسمى جمعيات الرفق بالصداقات الليلية.. أعضاءها هم من تدربوا على الخبث والحسد لا يثقون بأحد حتى في أنفسهم.. متشدقون لدرجة العزلة..عن المجتمع , عن الأقارب , عن الناس , يرون بأموالهم المشبوهة بأنهم الأفضل.. هكذا تُعلم اللغة تلقائياً.. لا تحتاجُ لمعلم..ببساطة وجوه مقنعة.. وقلوب تنبضُ الكراهية والحقد.. أساسها الجرأة الجبانة والصراحة الكاذبة منطلقةً تعرض حوارها الوقح.. كرشفة كأس لإرضاء المضيف , كقهقهة أنثى تركض وكلبها يلعب معها يقفز ويدور أمامها وخلفها تداعبه بكلماتٍ معبرة أمــشي يا حمــار !!.. كمضغ فتيات السوق.. كحديقة حيوان تشاهد فيها القردة كيف تتلاعب على القانون..أو ربما تقفزُ فوق بعضها البعض فوق الحياة مناشدة نشوة الرجولة. حتى تصل معاني اللغة إلي درجةٍ عالية من التفاوت بين البشر والحيوانات تصل إلى التساوي إلى التشبع إلى عمق البئر يعرف بــــ ذروة.. إنها المتعة تتقمص عدة الشخصيات وتلعب عدة أدوار.. ما أصعب أن تختار دور البطولة.

 أغمض الظلام جفونه..وانطفأت الأضواء..انخفض الصوتُ تدريجياً حتى اختفى. على مسامع خطوات تقترب من البيت كانت هناك امرأة عجوز تطرق الباب تطلب صدقه..فوجدت الباب مفتوحاً فدخلت..فرأت أجساماً ملقية على الأرض وزجاجات الخمر منتشرة في أنحاء المكان.. فقالت في نفسها يا تُرى ألا يوجد من يساعد هؤلاء الناس؟. فردت على نفسها قائلةً لابد من أن هناك الكثير من عرض عليهم المساعدة. ولكن لا تستطيع أن تساعد شخصاً يمنعه الكبر والغطرسة من مساعدة حتى نفسه. فغادرت المكان وهي تقول تأبى نفسي أن تأخذ المساعدة من هؤلاء الناس. ثم تتوارى عن الانظار. ينهض كل من في البيت وهم يترنحون من السكر وثيابهم رثة متفاجئين من ضوء الشمس الذي دخل عليهم بدون استئذان.. ليكشف ما اقترفته أيديهم في ظلمة الليل. يخرج واحد تلو الأخر من البيت ووجوههم في الأرض من الخجل الزائف.. ليعود كل واحد الى مكانه.. وهم يتواعدوان بأنهم سيلتقون في نفس المكان, والزمان ليعشوا اللذة من جديد تحت مسمى ( الألتزام بالعهد ).

يغادر الجميع وكل واحد منهم يرسم على وجهه ابتسامة خبيثة أملا ألا يطول النهار..ليعود بسرعة الى مكان الخطيئة.

__________________

* نشر سابقا في صحيفة قورينا

مقالات ذات علاقة

مَن يعدل ميلها؟

عبدالرحمن جماعة

الوجبة

فتحي نصيب

الحفرة

علي فنير

اترك تعليق