قصة

إرهاصات الموت

كان دائماً لديها اعتقاد أن هذا الذي يسمونه الموت لا يحدث في لحظة.. أو لا يمكن حصر حدوثه على فراش واحد, أو لا يبدأ وينتهي في الزمان والمكان الذي تفارق فيه الروح الجسد, ونقول عندئذ أن فلاناً مات في بيته بعد صلاة الفجر,أو في حادث سير هذا الصباح, لا..لا إنه حدث يبدأ ويمتد فعله في مسافة لا بأس بها قبل خروج الروح.. إنه في تصورها حالة قد لا تختلف عن حالة الحمل والولادة, التي يبقى الجنين داخلها تسعة شهور قبل أن تضعه أمه في يوم يكون هو تاريخ ميلاده, لذلك كانت دائماً ترى أن الميت يمشي عبر تلك المسافة أيام وحتى شهور, إلى أن يصل لحظة أجله, وقبلها لابد أن يظهر عليه ما يشير لذلك.. لابد أن يكون لهذا الحدث الجلل إرهاصات تتجلى على الجسد والنفس قبل حلول الأجل.. لابد أن يمر بمراحل كالنطفة والعلقة والمضغة..و..و..والمخاض والطلق والوضع, هكذا عاشت دهراً تعتقد وتتخيل بل وتتوهم, إذ يوم باحت بهذا لمن حولها, هناك من أتهمها بالكفر وهناك من سخر منها وآخر أشار إلى مسٍ في عقلها, فتكتمت وما عادت تبوح بشيء إلا في أضيق الحدود.

وصار هذا الاعتقاد يلاحقها ويتجدد معها في كل مرة يتوفى أحد أقاربها أو أصدقائها, أو من له علاقة بها من قريب أو من بعيد, يومها يقفز إلى ذاكرتها صورة هذا القريب في أيامه الأخيرة التي رأته فيه.. كيف كان شكله وحركاته, وكيف كان يشير ويلتفت وينظر ويضحك, ومتى يغضب ويطرب, وما الفرق بين آخر صورة له في ذاكرتها والتي قبلها.. وكان يساورها شعور من حين إلى حين, أن أولئك الذين أشاروا إلى مس في عقلها قد يكونون على حق, إذ بالله عليك مَن هو العاقل الذي ينتظر ويراقب ويلاحق الموت.. مَن هو الذي يبحث عنه وعن مواضعه ويسعى للتعرف عليه.. الكل يهرب ويفر منه.. الكل يسعى ليكون في أبعد مكان عنه.. لا أحد يتوق لرؤيته أو للحديث عنه سواها.. لكن يقيناً في داخلها كان دائماً هو الغالب على هذا الشعور.. يقيناً يحركها ويحرضها.. يقيناً يصور لها أنها تبحث وتسعى خلف حقيقة أكيدة, في حين يراها الغير وهماً أو جنوناً.

وفي كل مرة تضع نصب عينيها مجموعة من الناس تتوقع أنهم دخلوا تلك الدائرة المكروهة, لاعتبارات تراها صحيحة, ويفاجئها هو في مكان آخر غير متوقع لها, وتوسع هي الدائرة وتعدل فيها بناء على قواعد وحسابات وضعتها هي لرصد هذا الفعل المكروه, ودائماً يكون هو أكثر مكراً وحيلة منها حين يصطاد فريسة لا تخطر أبداً على بالها, ويترك كل أفراد مجموعتها أحياء يرزقون.

لذلك كانت في حاجة لفكرة كتلك التي عرضتها عليها زميلتها ” ليلى ” في العمل.. فكرة قد تمكنها من رصد الموت دون أن يدرى.. تمكنها من التجسس عليه دون أن يراها.. تمكنها من متابعته وملاحقته ساعة بساعة ويوم بيوم حتى يتعرى هذا الغموض عن فعله.. يومها وقبل أن تقوم بأي شيء حددت المكاتب المستهدفة وأماكن العدسات فيها, وقبل هذا حددت من هم الموظفين المؤهلين لذلك, وبعد ذلك بأسبوع باشرت في أخفاء أكثر من عدسة في أكثر من مكتب, داخل مقر إدارة الشركة التي تعمل فيها.. دست ثلاثة عدسات موزعة على ثلاثة مكاتب في زوايا مخفية لا يمكن لأحد رؤيتها, لتقوم تلك العدسات الصغيرة برصد حركة من في المكتب لمدة ثلاثة ساعات متفرقة يومياً, الساعة الأولى تكون في بداية الدوام, والساعة الثانية في منتصف الدوام, الساعة الثالثة في نهاية الدوام وخروج الموظفين من مكاتبهم.. وطبعاً لا أحد يعرف ذلك سوى ليلى, أما العدسة الرابعة لم تتمكن من وضعها في مكتب المدير العام والذي كانت تتوقع أنه داخل الدائرة منذ مدة.. انتظرت طويلاً فرصة مناسبة لإخفائها في مكان ما داخل مكتبه, لكنها كانت دائماً تخشى أن ينكشف أمرها, فعذلت في النهاية عن ذلك واكتفت بثلاثة عدسات.

كان بقاء العدسة الرابعة معها في درج داخل غرفتها في بيتهم, قد أوحى لها بفكرة تعليق هذه العدسة داخل البيت بعد أن عجزت عن ذلك في مكتب المدير.. أوحى لها بمراقبة جدتها التي بلغت اليوم من العمر ما بلغت.. لكنها ترددت كثيراً قبل أن تقوم بذلك, إذ كانت تخشى أن تكشف تلك العدسة موتاً آخر غير ذلك الذي على جدتها والذي وضعت له العدسة خصيصاً فيما بعد.. كانت تخشى أن يفاجئها هذا المكروه مثل كل مرة.. كانت تخشى يوم تجلس أمام الشاشة لترى كيف كان يفعل مع الجدة العجوز, أن تراه أو ترى فعله على شخص آخر من أفراد أسرتها.. أن تراه داخل بيتهم, يأكل ويشرب معهم على مائدة واحدة, وينام معهم تحت سقف واحد ويتنقل بين الغرف والصالة والمطبخ ودورة المياه, وفي آخر الليل يتسلل إلى فراش أبيها أو فراش أمها.. كانت تخشى أن تراه يفرض وجوده على شخص أبيها, الذي باتت تنتابه مؤخراً حالات مرض غريبة وجديدة عليه, لكنها رغم كل ذلك ولكي تصل إلى نتيجة, تشجعت وفعلت ذلك وعلقت العدسة الرابعة في ركن خفي وسط بيتهم يطل ويرصد أغلب حركة جدتها.

صارت بعدها حين تجلس مع أفراد أسرتها, تحدج العدسة من حين إلى آخر وينتابها ندم كبير وتتساءل كيف خطر لها ذلك.. كيف فعلت هي ذلك.. كيف تطاولت على حرمة وحياة من في البيت.. فكرت أن تخلعها وتعطيها لليلى لتضعها في أي مكان, أو حتى لا تضعها.. فكرت أن تعلقها في غرفة جدتها, بعيداً عن حركت أبيها المتواجد أغلب وقته تحت حالة الرصد.. فكرت في كل شيء, وكان ذلك الشعور بالندم يتزايد معها يوماً بعد يوم حتى دخلت الجدة المستشفى ودخلت في حالة غيبوبة, يومها صعدت على كرسي وخلعتها من مكانها, وأعطتها لليلى لترى ما رصدته العدسة لوحدها وتخبرها عن ذلك فيما بعد.. كانت سعيدة لأنها تخلصت من وجودها داخل بيتهم.. كانت سعيدة لأنها حررت أبيها وكل أفراد أسرتها من المتابعة والمراقبة, لكن ليلى كادت تصعق مما رأت.. أخفت ذلك عنها ولم تخبرها بما رأت, بحجة أنها لم تر شيء بعد, ثم أنه ضاع ولم تره أبداً, في حين كانت تشاهد فيه يومياً أكثر من مرة.. كانت تختلي بنفسها وتشاهده مرة وأثنين وثلاثة, ولم تكن تتابع حياة وحركات الجدة التي ربما صارت الآن قاب قوسين أو أدنى, بل حياة وحركات الحفيدة صاحبة العدسة.. صارت تعيد رؤية مشهد الحفيدة أمام المرآة أكثر من مرة كل يوم, إذ ظهرت في الساعات الأخيرة التي رصدتها العدسة, أنها لا تعير اهتماماً للمرآة كالسابق, فهي التي كانت تقف أمامها لدقائق تعيد ترتيب مظهرها قبل خروجها من البيت, صارت الآن تعطي المرآة لفتة عابرة دون حتى أن تقف لها.. هي التي كانت أمام المرآة تتفحص كل صغيرة وكبيرة على وجهها, صارت لا تتفحص شيء.. هل كانت تشعر أن المرآة ليست للأموات..هل كانت تشعر في باطنها أن المرآة أداة تعكس الحياة فقط.. هل كانت تشعر أن الموت لا يظهر أبداً على سطح المرآة.. هل كان الموت يدفعها إلى الخارج بعيداً عن المرآة, لأنه يعرف تماماً أن المرآة وجدت للحياة وليست له..؟! إذ ماذا يريد الميت من المرآة..! قد يحتاج إلى قطعة قماش بيضاء, أو إلى قطعة خشب لتابوته, أو إلى أداة لحفر قبره, أو إلى أيدي تشيعه وتقبره, أو حتى إلى عطر وطبيب شرعي أحياناً. لكنه ماذا يفعل بمرآة..! فهل أقنعها الموت دون أن تدري يوم تمكن منها ووصل مراحله الأخيرة, فاستجابت هي له بلفتة وداع لمرآتها ..؟! هكذا كان تسأل ليلى في كل مرة تجلس أمام الشاشة لتشاهد كيف يحاصر الموت أعز صديقاتها, دون أن تجد من يؤكد لها أن هذا هو فعله المكروه, أو من ينفي عنها هذا الوهم الذي عاشت في دوامته, وصارت على إثر ذلك حين تطرْ للوقوف مع صديقتها في العمل تتحاشى النظر إلى عينيها, ولم ترتاح من هذا الوسواس إلا يوم داست على العدسة ودششتها, وتقدمت بطلب كتابي طويل عريض إلى مدير الشركة, تشرح فيه ظروفها ورغبتها في الانتقال والعمل في مكان آخر.

سمنو: 11/3/2009

مقالات ذات علاقة

السجّادة…

أحمد يوسف عقيلة

ذكريات جد

علي فنير

كلاب العسل

المشرف العام

اترك تعليق