قصة

مواجهة

Elgeddafi_Alfakhri_02

اكتشفت أنني أعيش وحدة مرعبة في هذا البراح الواسع من الرمل الساخن، والحجارة السوداء المسننة… الفضاء القاحل يمتد حتى حدود السلاسل الجنوبية، يتراقص السراب من حولك مع بداية ارتفاع الشمس.. ذرات الغبار تزيد اللوحة اختناقاً، يجعلك تلملم أطراف عمامتك حول أنفك وعينيك.. الريح تشق مسارب طويلة، وتكدس الرمل في شكل أكوام صغيرة. الشجيرات البرية تقاوم الريح، وتشهر أشواكها الحادة في وجهك. أحس بها تخترق كل خلية من جسمي.. الحصى الدقيق وحبيبات الرمل تلسع جلدي، ويستقر بعضها في عينيّ، فأمسحهما بطرف العمامة… صفير حاد من كل جهة يعلو أزيزه ويخفت فوق الرؤوس الحجرية، وبين الأغصان اليابسة. الواحة على مسافة يومين كاملين… الجمل لم يعد يطيعني… منذ الصباح أخذ يعاندني… نظراته العدائية تخيفني… تجعلني أتعامل معه برفق حتى لا أثيره… أتمنى أن يكون ذلك بسبب الوهج الذي نعيشه، لكن القلق يتمدد في داخلي وينذر بحدوث شيء لا أفهمه.

تذكرت ذلك المسافر الذي قتله جمله في آخر رحلاته… وجدوا جثته ملقاة في بطن الوادي… كانت مشوهة.. كل العظام محطمة. توقف الجمل فجأة واستدار نصف دورة مركزاً نظره عليّ… خيط رغوي أبيض يقطر من شدقيه. كنت على مسافة خطوات منه… لو ارتد إلى الوراء لا أملك إلا أن أطلق ساقي للرمل في هذا الفضاء. ازدادت دقات قلبي سرعة، وتصاعد الدم إلى رأسي. لم يكن في متناولي أي شيء حتى أُبعد به الخطر.. ضعيف في مواجهة الهزيمة المحققة أمام هذا الكائن الذي لا يفهم موقفي… كنت أؤجل الاشتباك بأن أبقى ساكناً وعلى مسافة بعيدة منه… كانت نظراته المتوترة تخترقني… لا أعرف مدى قدرتي على الهرب أمام قوة الوحش الصحراوي حين تكون المواجهة. صارت تفزعني تلك الجثة في بطن الوادي… أشم رائحة جسدي المتفسخ… كان الجمل يحدق بي… نظراته تقتحم ذاكرتي، أسمع تحطم العظام تحت ثقله الهائل… الرمل الساخن والحصى يدمي جسدي… عشرة أعوام طويلة مرت على تلك الرحلة المشؤومة… لازال يتذكر تفاصيلها… يتألم لذلك الضرب الموجع على كل جسده… يريد أن يلحق بالقطيع… أن يتخلص من حمله… كنت أمنعه.. أضربه بعنف… أضرب بقوة على رأسه… على قوائمه وبطنه… يرغي بألم حتى يتناثر الزبد من شدقيه… يلوي عنقه الطويل… يرفع رأسه عالياً… تحمر عيناه.. يتوتر بدنه… يرتعش… لكنه يذعن للخطام ويتبعني بدون مقاومة. نفس النظرة الماكرة تخرج من عينيه… لكننا هنا وحيدان، لا قطيع ولا رعاة.. أقيس حدود جسده الذي ربما يتحول إلى ثقل يطحن عظامي.

كان جسده الفاره يسد الأفق… أشعة الشمس تنعكس على وبره البني العطن… رائحة الزبد تأتي منذ أعوام عشرة، تملأ أنفي وتنتشر في المكان.

صرت أدرك أن اللحظة التي أعيشها مليئة بالخيبة.. لم أعد قادراً على الهرب… كان عليّ ألا أضربه ذلك اليوم البعيد… أن أتركه يرجع إلى قبيلته وحنينه إلى جنسه… لم يكن ثمة ملجأ إلا أن أقف عاجزاً هنا… أن أحبس أنفاسي وصراخي داخل صدري… أن أنتظر الخطوة التالية وأتصرف بعدها… الآن عليّ أن أفرغ رأسي وأرتب أفكاري… أن أنقب عن قوة تمنع الكارثة. كانت الصور القديمة تتعاقب أمامي… الرائحة الكريهة التي آلت إليها الجثة… الدهن الذي يلطخ الرمل… خرق الملابس تهزها الريح في الفراغ… الوحش الرابض أمامي في كثافة الضوء… الواحة البعيدة التي لن أصلها… وحشان يخترقان هشاشة الرمل… يسرعان… يتلاحمان… ينفصلان… يصرخان… يعلو غبار أحمر في الأفق… يغيبان وراء المرتفع الرملي العالي حيث هبط قرص الشمس.

مقالات ذات علاقة

مكـتب الرئيـس

عزة المقهور

الساعة الحادية عشرة بتوقيت اللصوص

رضوان أبوشويشة

هـكـذا أتذكر هنـد

اترك تعليق