المقالة

كلام غير مسؤول وغير جاد

(إن اللغة من حيث تعريفها, هي تعبير الإنسان المتحضر أمام العنف الصامت.)

جورج بطاي

 

– عندما قاطعت صديقي غير الحميم بسؤالي: ما هى السيميائية التي تقترح?.. وكيف تتناول النصوص? رد بقوله:

– إن كل كلام اتصالي, لاحظ إنني أقول: اتصالاً وليس تواصلاً, بين البشر يعتبر نصاً.. وقد تكون الرغبة في التواصل (غريزة), وبالمعنى الوجودي للحضور الإنساني (اللدزاين لهيدغر), أي خاضعة لطبيعة الأنواع الحية عموماً. وبسبب هذه الغريزة, الاتحاد الجنسي, في البقاء واستمرار النوع, فقد لا يتحقق هذا التواصل (الحلم), ولكن الألفاظ السابقة: غريزة, الرغبة, التواصل, الاتحاد الجنسي, لها ظلال وحقول دلالية مثل: السيطرة والصراع من أجل البقاء للأنواع (الذات الفردية) والتي لها القدرة – القوة على التكيف والاستمرارية بالتالي.

ولكن الحديث عن النوع لا يعنى سوى التفرد, أي الذات والحضور الشخصي, الكينونة, فإن الأجهزة للكائنات الحية الحيوية لها آليات أو تقنيات أو قوانين فيزيائية صارمة, والقدرة- القوة, إدارة هذا الصراع اللاحيائى, وهي خاضعة لقوانين التوازن التبادل المنفعي أيضاً, وهى ما تسمى (غريزة البقاء) الفردي.. كل ذلك هو لنشترك فيه مع الكائنات الحية عموماً, وليس كما يتوهم بعض الكتّاب الرومانسيين بحديثهم عن الذات والتفرد والكينونة وأنها خاصية إنسانية… الخ.

إن ما يميز النوع البشرى فقط (الظاهرة اللغوية), وهى تعتبر أيضاً جهازاً, بالمعنى الفيزيائي والإحيائي السابق, ويتطلب هذا الجهاز لإدارته, فضلاً القوة, العلم, أي معرفة (الكيفيات) آلياته وقوانينه, أو تقنياته.. ولعل أبرزها النبذ والإلغاء والإقصاء والتهميش.. أي كل من يحاول الخروج عن الإجماع لقيمي المعيارى (لمؤسسات الخطاب), كافة محافل (السلطة) المركزيات وهى التي بدأت مع الاتصال اللغوي, للتجمعات البشرية الأولى البدائية من شيوخ القبائل الذين كانوا مالكي أسرار اللغة وفك الطلاسم, وكانوا قسم المشعوذين والكهنة ومخترعي الأساطير, أي القصص الخرافية (العجائبية) وحتى يومنا هذا في الدساتير والقوانين, مروراً بكافة تقنيات الإشهار في ترويج السلع التجارية والمنتجات الاستهلاكية, نجوم الأدب والفن والرياضة والأبطال الشعبيين… الخ.

ولكن الإشكالية فيما تعتقد أنه تواصل إنساني, وهو غير موجود إلا في أذهان الرومانسيين أيضاً, ما هو سوى اتصال لغوي ممكن واحتمالي وغير نهائي, أما التفريق بين الاتصال والتواصل فذلك موضوع آخر, وما يعنينا هنا أن السيميائية ترفض تفهّم اللغة بأنه وحدات معجمية (متفق عليها !?)، ونحو وصرف وتركيب فقط.. أو ما يعرف في اللسانيات التوليدية, بمستويات الوصف الثلاث: الصوتي التركيبي والدلالي. أي (نحو الجملة), بل هو أيضاً بالبحث في (نحو النص) أو (نحو السردي للخطاب).. وهى تقترح لتوسيع هذا المفهوم (الظاهرة اللغوية) وليست الكلام المنطوق أو المكتوب فقط, بل كل ما يتم به الاتصال والأخبار من علامات إشارية.. فكل العلامات (المتفقة عليها !?) تعتبر وحدات معجمية مثل: لغة الصم والبكم, أنظمة الموضة والرقص, وحتى العلامات الإرشادية لمدربي الرياضة للاعبين, وعلامات الوجه وحركات اليدين حتى في أحاديثنا اليومية, وكل العلامات الخاصة, أو ما يسمى المجموعات اللسانية الخاصة, كلها نصوصاً وقابلة للتحليل وضبط تقنياتها وآليات اشتغالها وليس فقط دراسة النصوص الأدبية أو المكتوبة عامة.. مثال تلك التعبيرات والإيماءات فيما بين الممثلين بالمسرح والسينما أنفسهم, والتي قد لا يتفطن إليها المخرج نفسه, سواء كان الأمر تنافساً أو تضامناً فيما بينهم, فهي تعتبر علامات لغوية وحواراً, أي نصوصاً خاصة ونوعية وأنا هنا أدين بالكثير في إيضاح ذلك للفنان (أحمد بوفرده), عندما سألته عن أمثلة  تطبيقية في تجربته مع هذه النصوص, مما ساهم في توسيع آفاق معرفتي النظرية.

باختصار فإن السيميائية هي اقتراح مشروع لم يبحث في الظاهرة اللغوية وكيفية تجليها, وكل علامة اتصالية نستطيع أن تتضامن من علامات أخرى، وتتمكن من تنظيم نفسها في أنماط – وآليات في بنية من أجل إنتاج المعنى.. ويترتب على ذلك مجموعة من النتائج, يعنينا منها هنا إعادة تصنيف جديدة لعلوم النص البلاغة والانفتاح على آفاق أرحب للمباحث النظرية, وهي في صدد تحقيقه في المشروع تكتسب شرعية الدخول بجداره لمجال العلوم التطبيقية (البحتة).. فهي تنهي مجموعة من الأساطير, أو ما يسمى بالعلوم الإنسانية علوم النفس والاجتماع والسياسة والاقتصاد والتاريخ.. الخ, لتحلق البدائية مما كانت تسمى علوماً, وربما لا زالت كذلك لدى البعض: علوم السحر وقراءة الكف والنجوم وتفسير الأحلام وعلم السيمياء القديم, أي تحويل المعادن الخسيسة إلى ذهب.. الخ.. وهذه الأساطير التي ستصبح بدائية أيضاً (العلوم الإنسانية), لأنها تعتمد على التصورات والإلهام والأفكار, لأنها تعتبر في مجال علوم الأيديولوجية, ومعناها الحر في علم الأفكار أو المثل.

.. ولكن إذا كانت الظاهرة اللغوية, كما تقول, هي إحدى التقنيات الفيزيائية لغريزة البقاء واستمرار النوع, والتي هي من الخصائص الإحيائية للكائنات الحية, فلماذا ظهرت للنوع البشرى فقط دون بقية الأنواع?

-أولاً: إن السؤال بماذا ? أو الماهية (ما هو?.. ما هي?), غالباً ما تكون الإجابة غير علمية, لأنها أسئلة خاصة بالتصورات والأفكار أي غيبية وميتافيزيقية مهما تلونت بألفاظ حديثة, ذلك لأن العلم بحث في (كيف?)..

-ثانياً: وكما أثبتت أبحاث تشكومسكى وليبرمان وبالمر وآخرين, وفيما اطلعت عليه بشكل محدود جداً بدون ادعاء أو تواضع زائف, فإن القدرة (=الكفاءة, الأهلية) اللغوية للنوع البشري تكون الإجابة عليها شبه مستحيلة لأنها ليست في نظرية أصل الأنواع وتطورها (دارون), بل قد تكون في علم أحياء الذرات, أي في الخصائص الإحيائية للخلية, أو الكيفية التي تطورت فيها العمليات العضوية, وهذا الإعداد الإحيائي في ظروف الحياة على الأرض, ولكن مع ذلك هناك أبحاث جد متخصصة وباهرة في هذا الصدد في البحث عن الملكة أو الغريزة اللغوية إن صح التعبير, للنوع البشري, ونستطيع أن نتبين ذلك بوضوح في الرغبة الشديدة والملحاحة (كغريزة) في الكلام وتكرار المقاطع الصوتية بدون معنى (كأصوات), بالنسبة  للأطفال بعد تعلم المشي (ما بين السنة والثلاث سنوات), وهذا هو ما يسمى التعبير عن الحضور أو الكينونة, رغم أنه يتم من خلال اللعب والفضول, والتعبير عن حالات الغضب والاحتجاج والفرح.. الخ, سواء كان إيماءات وحركات الوجه والجسد أو الأصوات, وهو ما نشترك فيه مع الحيوانات العليا (القدرة) أيضاً, لكن ما يميز الطفل البشري في هذا العمر مقاطع الأصوات الثنائية والثلاثية, لأن الحيوانات ليس لديها أصوات سوى مقطع واحد تقريباً والتنويع عليه.. كما أن الانتباه, الإنساني محدود, القدرة على التركيز في الاستماع, إذ هي حسب نظريات التعلم: 45 دقيقة في المتوسط واللعب والمتعة, أي استعمال جهاز آخر (البصري), تطول  قليلاً, ولكنها لا تتجاوز الساعتين غالباً, كما هي العروض المسرحية والسينمائية, لأن الاستماع, على ما فيه من مشاركة فعل التلقي و يعني (الصمت) المنتج أيضاً..

… يبدو أن الوقت أدركنا, فقد كان في ذهني سؤال عن رابطة الكتاب والأدباء (كمؤسسة اعتبارية), وعن الإنتاج الثقافي لأمثله محددة, نصوصاً معينة لبعض الكتاب, عينات عشوائية لما ينشر في دورياتنا وصحفنا وكتبنا, خاصة للدار الجماهيرية للنشر والتوزيع, حتى لا يكون كلامنا فيه من غيبيه التعميم والتجريد.. ولكن قبل ذلك لديّ سؤال نظري بشأن السيميائية, حتى أفهم (كيف) تكون الإجابة.

 _______________________________

صحيفة الجماهيرية.. العدد:3991.. التاريخ:09-10/05/2003

مقالات ذات علاقة

غياب المنهـج

مفتاح قناو

مواكب جبران خليل جبران و مواكب الربيع العربي: الغضب – و الغابة – و الحُلُم

جمال عبدالقادر أمهلهل

الراكبون على أكتاف الموتى

المشرف العام

اترك تعليق