المقالة

السقطة

 

(السقطة) عنوان رواية منولوغية لألبير كامي ضمنّتها مرجعا لبحث تخرّج في ميتافيزيقا(المحال)، الموضوعة التي راجت باسم العبث. كان ذلك في أواخر أعوام السبعينيات من القرن الماضي من جامعة بنغازي حيث مازالت في ليبيا حتى ذلك الوقت جامعة يمكنك أن تكتب فيها بحثا في الفلسفة.

كامي يتحدّث في سقطته عن الملائكة المحايدين في المعركة بين الله والشيطان الذين يضعهم(دانتي) في أطراف المنطقة التي تكون مدخلا لـ (جحيمه) لأنّهم اختاروا أن يكفّوا عن كونهم آثمين، دون أن يبذلوا مجهودا لتنقية نفوسهم، ليس فيهم مايكفي من الخطيئة ولا مايكفي من الفضيلة، وتنقصهم الطاقة الشريرة كما الخيّرة. وحتى لانكون مثل هؤلاء الملائكة سقطى تواطؤ الحياد الذين استنكر أحد أبناء بنغازي ممن يكتبون في الموقع الألكتروني ليبيا المستقبل أكلهم المقانق واحتساءهم الشاي الأخضر في خيام العزاء، صار من اللازم علينا أن نكتب عن المدينة التي أصبحت تتنفّس الاغتيال كالأكسيجين والتي تقام تقريبا يوميا في كل حيّ من أحيائها أعراس الدم، ويدّب فيها القتلة دبيب النمل، يفاجئون ضحيتهم الذي ينتظرهم باستسلام على عتبة البيت أو في ناصية الشارع، في السوق، أو أمام المدرسة حيث يتعلّم الأبناء أو الأحفاد، أو يلتقونه يقود سيّارته وحيدا أو مع آخرين، فيمطرونه برصاصهم البارد الذي لايعرف الرحمة فتسجّل القضية ضدّ المجهول. وهو ماجعل المخيال الإنساني يتحرّش بالقتل كونه أحد مجهوليات الموت وجرائمه القاسية، بل هو الذروة في إثارة الموت ذاتها فأنتج كتابة التراجيديا: أوديب الملك، ميديا، ماكبث، جريمة قتل في الكتدرائية، الأحمر والأسود، الأخوة كرمازوف، الغريب، قدر الإنسان، يرما، أحداث موت معلن، اسم الوردة، وقتل ماريو بوليرو، والقائمة تطول.

صار من اللازم علينا أن نكتب عن المدينة التي أصبحت تتنفّس الاغتيال كالأكسيجين

في بحثه حول تاريخية ظهور التراجيديا في اليونان، يشير(جان بيير فرنان) إلى نقطة جوهرية تكون قاعدة تبني عليها فكرة مقالنا بشقيّها: المتعلّق بتراجيدّية فعل الشخص، والآخر المتعلّق بتواطؤ ضمير الجماعة فيشخّصها في حالة الاستقطاب التي تشّق التقنية التراجيدية اليونانية إلى عنصرين: الشخصية الفردية الملامح التي يشكّل فعلها مركز الدراما، والتي تمثّل بطلا من زمن آخر يختلف مصيره بشكل أو بآخر عن المصير العادي للمواطن اليوناني، والكورس أو الجوقة التي هي كائن جماعي مغفل، يقتصر دورها على التعبير من خلال التأوهات والآمال والأحكام عن مشاعر المتفرّجين الذين يشكّلون الجماعة المدنية التي يمكن تسميتها بلغة أزمنتنا الحديثة بالشعب.

الملك إدريس الذي حكم ليبيا من (1951.12.24 إلى1969.9.1) والذي اكتسب شرعية ملكيته الدستورية من هيبة الطريقة الدينية الإصلاحية التي أسسّها جدّه، وجهاده وأسلافه ضد الاستعمار، وحنكته والنخبة السياسية الليبية التي التفّت حوله في توحيد إرادة الليبيين لتأسيس دولتهم الوطنية الواعدة. اجمعت آراء من كتبوا في شخصيته، وقيّموا أداءه السياسي لمدة خمس عشرة سنة بعد حادث اغتيال ناظر حاشيته الذي تمرّ بنا ذكراه هذه الأيام والذي وقع في مدينة بنغازي في(1954.10.8) فاعتبروه الضربة التي قصمت ظهره، فوسمت شخصيته السياسية بالتوّحد والارتياب في الآخرين، والتذبذب في التعاطي مع المتغيّرات الاقتصادية والاجتماعية وانعكاساتها السياسية التي عصفت بالمجتمع، وبالأخص فئة الشباب المتصاعد تأثيرها فيه، وإهمال التفكير في المصير الذي ستؤول إليه مملكته بعدم الحسم في تولية من يُعهد إليه تسييرَ شئون الحكم بعد غيابه، بل ترك الأمر مفتوحا فيما يشبه الفراغ السياسي الذي حسمه انقلاب العسكر المشئوم الذي قاده صغار الضبّاط في سبتمبر عام 1969م

إن حادث الاغتيال الذي بدا في المنظور العام تعبيرا عن انشقاق العائلة الملكية وانقسام القصر على نفسه، مثّل بالنسبة للملك مسّا جارحا بشخصه وبهيبته الملكية متعاملا مع تداعياته على المستويين العائلي والعام برّدة الأفعال ذاتها التي تليق بالملك/ البطل في التراجيديا اليونانية الموصوف بالعناصر الدرامية التي أبرزها(جان بيير فرنان)، وهي: فردانية شخصيته واغترابه الزمني واختلاف مصيره عن مصائر أفراد شعبه.

يمكن اعتبار سلوك الملك حسب وصف أرسطو ترّديا وسقطة كونه مُدرَكا ومُنتَوَى

هذا المصير المأساوي الفردي الذي عصف بالدولة وجعل نهاية الملك تراجيديا في تاريخ السياسة، يمكننا إلقاء الأضواء عليه بما عرضه فالتر كوفمان في كتابه التراجيديا والفلسفة لاجتهادات تعرضت لتفسير ماعناه أرسطو في كتابه الأخلاق إذ سمّى الخطأ الأخلاقي الذي يتلبس الفعل الموصوف بالتراجيدي بكلمة(Hamartia) اليونانية، وترجمتها الإنجليزية(Tragic Flaw) بمعنى الترّدي أو السقطة التي يبدو على ضوئها الأبطال التراجيديون، رجالا ونساء، شخصيات إيجابية، هم أقرب الى الخير منهم الى الشّر قاموا ببعض الأعمال التي لاتمحي ذكراها، والتي تجلب لهم المحن، ومن هنا فإنهم يثيرون فينا مشاعر التعاطف.

ثلاثة سياسيين كانوا شهودا على الحدث الجنائي لقربهم من القصر كونهم وزارء في الحكومة التي عاصرته. في مذكّراتهم التي أتاح لي مغتربي الألماني الاطلاع عليها منذ سنوات إبّان نشرها في الصحف كتبوا بأن الملك إدريس الذي تقبّل العزاء مكلوما في ناظر قصره، بل خدنه وصديقه المصاحب، اتخذ مباشرة بعد عودته من مدينة البيضاء في أقصى شرق البلاد حيث تمّت مراسم الدفن ثلاثة قرارات حاسمة. ما يهّمنا ثالثها في الترتيب، وهو السحب غير المعلن لثقته السياسية من مدينة بنغازي التي وقعت أمام مبنى رئاسة الوزراء فيها جريمة القتل الدامية وتعزيز مكانة البيضاء بأن تكون مقرا للحكم والسياسة وهي المدينة التي تهيمن عليها قبيلة يقود أحد أبنائها، وهو صهر ناظر الحاشية القتيل، قوة دفاع برقة الموثوقة من الملك والحامية لعرشه.

أيضا الاستقرار نهائيا في طبرق حيث توجد القاعدة العسكرية البريطانية، وترك قصره بل أهدائه للجامعة الليبية الوليدة عام 1955 إمعانا في إظهار هواجس التوجّس والارتياب التي طالما خامرته أثناء مرحلة الإعداد للاستقلال إزاء المدينة التي تبادل ونخبتها السياسية مشاعر الشّك والتي أحس هذه المرّة أنّها تواطأت ضمنيا مع الجريمة.

في أخلاقيات التراجيديا، يمكن اعتبار سلوك الملك حسب وصف أرسطو ترّديا وسقطة كونه مُدرَكا ومُنتَوَى، لكنّه ليس متعمدا وصادرا عن سبق إصرار، فهو بمثابة رّدة الفعل التي تصدر في غمرة الغضب أو الانفعال.

إلا أنّ تصرّفه غيرَ المحسوب في تقييم السياسة والتاريخ، ربما مسّ المدينة في كرامتها، فأسقطها في قدر المدينة المهمّشة التي هي فيه حتى الآن، بل المهجورة التي يمكن مماهاة مصيرها حسب القراءة النافذة( ميديا وغضب الهجران) للكاتبة السويدية(غودرون إكستراند) بمصير(ميديا) المرأة في تراجيديا(يوربيدس) التي قتلت ابنيها العزيزين انتقاما مروعا من أبيهم الرجل الذي هجرها. وإذا كانت(ميديا) قد قتلت ابنيها بيديها وبكامل وعيها، فإن بنغازي تقتل اليوم أبناءها بتواطؤ لاوعي الجماعة فيها مع القتل، وهذا لايعني الموافقة على الجريمة بالتستّر على القتلة، بل هو حالة من الاستسلام السلبي تشّل ميكانيزمات الدفاع والرفض والمواجهة.

مقالات ذات علاقة

ثمانون حولاً على معركة عافية

أمين مازن

تلاميذ الشهابي

عبدالقادر الفيتوري

رومنطيقيو المشرق العربي

المشرف العام

اترك تعليق