حوارات

سالم العوكلي: ما عدّت أثق في الكلمة

يرى الشاعر الليبي سالم العوكلي أنّ هناك تضادًا بين الشعر والرصاص، قائلاً إنّه في زمن الحرب وحين يتحوّل السلاح إلى مشهد جمالي تلتقط بجانبه الصور حينها يسكت الشعر، وتابع في حواره مع “بوابة الوسط” أنّه ما عاد يثق في الكلمة لتعبر به منزلق الدماء، ويؤكّد أنّ الثورة الليبية اختلفت عن الثورات السلمية المزامنة لها، في تونس ومصر واليمن، وإلى نص الحوار.

الشاعر سالم العوكلي
الشاعر سالم العوكلي

• الحالة الليبية بدأت ثورة والآن تتّجه نحو الحرب الأهلية، في البداية على صوت الرصاص وصمت الشعر، والآن مازال الشعر صامتًا، وبالخصوص قصائد العوكلي، من يتصدّى للنار إن لم تكن الكلمة؟

– كأن هناك تضادًا بين الشعر والرصاص، لا أتخيلهما معًا في أي مكان أو وقت، يفزع الرصاص الرؤى الشعرية مثلما يفزع العصافير. لقد تحوّلت الانتفاضة الليبية إلى حرب أهلية بمفهومها التاريخي منذ أول يوم، وكنا في فترة الهيجان تلك ننزعج من تسميتها حربًا أهلية، نريدها ثورة وكفى، لكنها كانت مختلفة عن الثورات السلمية المزامنة لها، في تونس ومصر واليمن، وأسوأ ما فعلته الثورة السورية أنها قلّدت الثورة الليبية، بمعنى أننا دخلنا حربًا تحت وهم عايشناه بأننا جزء من الربيع العربي، وفي زمن الحرب وحين يتحوّل السلاح إلى مشهد جمالي تلتقط بجانبه الصور حينها يسكت الشعر، سُئل أراجون: لماذا لم تكتب أثناء الحرب؟ فقال: الكتابة أثناء الحرب، سواء أكان معها أو ضدها، دعاية لها. وأنا منذ بدأت الكتابة كنت حريصًا على ألا تدخل أية مفردات دالة على القتل إلى نصي الشعري، بما فيها مفردة شهيد التي كنت أحس أنّ الشعر كطاقة كثيفة من الحلم قادر على تجاوزها مادامت جزءًا من معادلة الموت.

• منذ فبراير 2011م لم تنتج سوى قصيدة واحدة، لتدخل بعدها في بيات مرعب، ألا يستحق الشهداء مزيدًا من الإبداع؟

– حين رأيت يوم 17 فبراير وجوه أول خمسة شهداء في المستشفى بمدينة درنة أحسست بشعور يعجز وصفه، شباب مثل الورد يرتدون آخر الموضات وواضح تعلقهم بالحياة. فكرت أن لديهم عشيقات وأنهم كانوا يرسمون مستقبلهم في ظلال الحب، أحسست أنهم ماتوا من أجلي ومن أجل ليبيا فكتبت قصيدتي الوحيدة تقريبًا بعد فبراير بعنوان وصية الشهيد، والآن يحزنني أن هؤلاء الشباب الذين ضحوا بأنفسهم وهم عزّل من السلاح وقبل أن تدخل المصالح والأجندات والمتاجرة حتى بالاستشهاد، يحزنني أنّ ما ضحوا من أجله ذهب أدراج المؤامرات ، وكل المتاجرين الآن بالدم الليبي يبدؤون أكاذيبهم في القنوات بالترحم على الشهداء والدعوة بشفاء الجرحى وعودة المفقودين، إنها لازمة من سرقوا الثورة وانحرفوا بها عن مسارها الأخلاقي إلى متاهات المصالح الضيقة. أقول في آخر القصيدة:
أيها الساسة الهرمون
لا تخونوا وصية الشهيد
لا تجعلوا من الحلم القوي
كابوسًا جديدْ
يصادفني الكثير من الأصدقاء والقراء، وأول سؤال يتبادر إلى أذهانهم: أين كتاباتك؟ لماذا لم تعد تكتب؟ ودائمًا كنت لا أجيب. ليس لأني لا أعرف الإجابة ولكن لأن الإجابة فيها من التعقيد ما يجعلني ابتلعها، فعلاً الأمر لا يخلو من إرباك، ولكن جل ما كتبته كان سؤاله الجذري الحرية المسؤولة والكرامة الإنسانية، لم تكن كتاباتي متوجّهة ضد طغيان محدد تقوده منظومة عسكرية وأمنية في مرحلة ما، ولكن كان ضد فكرة الاستبداد، وامتهان الإنسان، وحلما بالحرية والحقوق، كنت أود أن أجيبهم بأنه بالنسبة لسؤال كتابتي لم يتغيّر شيء، فالطغيان صار أشد وأكثر تخلفًا، وكل ما يتبعه من سجون خارج القانون ومن تعذيب ومن إقصاء، وأشد عذاب تعرض له الليبيون هو سرقة فرحتهم بالانتفاضة وسقوط النظام، وصار بإمكانك أن ترى الحزن في عيون الناس أينما حللت، ليس الحزن فقط ولكن ظل من الندم السري يتفشّى في نظراتهم.

• كتاباتك القديمة، أقصد في عهد القذافي، معظمها دعوة للحرية وانتفاضات ضد الكبت والاضطهاد والتكميم، نفس الظروف التي جعلتك تكتب ذلك، هي الآن حاضرة من جديد وبقوة، كيف سيتلقى الناس كتاباتك القديمة لو أعدت نشرها الآن؟

– حدث أن أعدت نشر بعض الكتابات التي نشرتها قبل فبراير بسنين، والكثيرون يعتقدون أنها كتبت الآن. لدي اعتقاد بأن الكتابة عليها أن تذهب صوب الأسئلة الأصيلة وألا تنفعل أو تنقاد إلى محاكاة الوقائع الجارية، وبهذا المعنى لا يكمن فعل التغيير الجوهري عند الكاتب في تغيير نظام سياسي أو قتل طاغية، لأنه طالما البيئة ثابتة والبنية التحتية لإنجاب الطغاة عاملة فسيتكرر المشهد برمته، وحين يكون القمع سائبًا ويتحرك وسط فوضى عارمة سيكون أفدح وأكثر تنكيلاً. وهذا ما حدث حتى الآن للأسف.

• هل مازلت تثق في الكلمة كي تعبر بنا منزلق الدماء هذا إلى واحات السلام؟

– حقيقة ما عدت أثق في الكلمة لتعبر بي منزلق الدماء، ربما أقصى ما يمكن أن تفعله أن توثق للحدث لا أن تغير مساره. ما يسيطر الآن على المشهد هو الإعلام التكتيكي الذي يستخدم أحدث اختراعات العقل البشري من تقنية معلوماتية للتشويش على المشهد وعلى أية كتابة تسعى للرصانة أو المهنية، العقل غيبه إبان الثورة الهيجان الجماعي الشبيه بالثمالة، وغيبه بعدها ضجيج الإعلام الذي لديه القدرة على الدخول إلى البيوت عبر الفضائيات ومرافقة النزهات عبر النت والمواقع الاجتماعية، مواقع التواصل الاجتماعي التي استخدمت في مجتمع متخلف للنميمة والنزاع الاجتماعي. وفي مثل هكذا جو تبدو الكلمة الضمير خافتة وخجولة ولا دور لها سوى أنها توهم كاتبها بأنّه برأ ذمته الأخلاقية.

• رغم كل ما نعانيه من قتل واختطاف ودمار إلا أن الحياة ظلت مستمرة، كيف تفسر الأمر؟

– يذكر الكاتب الأرجنتيني ألبرتو مانغويل، في كتابه يوميات القراءة، اقتراحًا سرياليًا فظًا يحيلنا إلى مفهوم ملتبس للجنون في الفن وفي الواقع: “في عام 1930 اقترح أندريه بريتون بفظاعة، بأن الفعل السريالي الأكثر بساطة يتضمن النزول إلى الشارع، وفي يدك بندقية، وبأكبر سرعة يمكنك أن تسحب الزناد، تطلق النار عشوائيًا على الحشود”. غدا هذا الجنون السريالي جزءًا من يومياتنا، وكنا ننفعل في البداية ونتفاعل مع أي حادثة قتل أو خطف، ثم أصبح الأمر يأخذ شكلاً اعتياديًا ويشكل جزءًا من يومياتنا، وأصبح الناس يحمدون الله إذا ما مات شخص ميتة طبيعية ويعتبرونه محظوظًا. هذا ما يشكل الرعب الآن، ويجعل من الحياة كابوسًا متصلاً، وهذا البرود الذي بدأ يعترينا مع ازدياد المآسي يهدد إنسانيتنا وشرطنا الأخلاقي. كتب شاتوبريان، أنه في فوضى أحداث الثورة الفرنسية، طلب شاعر بريتانيي كان قد وصل توًا إلى باريس أن يؤخذ في جولة في قصر فرساي. “هناك أناس” يعلق شاتوبريان “يزورون الحدائق والينابيع، بينما من حولهم تتهاوى الإمبراطوريات”. كثيرًا ما يحيرني هذا الأمر، الناس هنا تتصارع على الأملاك والأراضي ويبنون دون هوادة، يذهبون إلى الشواطئ والتبضع بينما مصير البلد مجهول تمامًا. ولكني أعود لأقول هذا ليس برودًا لكنه نوع من المقاومة، أو بمعنى آخر تعلّق هيستيري بالحياة في مواجهة ثقافة الموت المطروحة بشدة منذ عقود وحتى الآن، وهو في الحقيقة تأويل غير شافٍ للحيرة، لكنه محاولة لاستعادة الثقة بإنسانيتنا المهدّدة. هكذا يرتبك الكاتب أمام تغيرات مثل هذه، ويرتبك أمام ذاكرة حبره التي تفشل في أن تبرر له أي شيء مما يحدث الآن، يرتبك أمام حلمه القديم الذي سطره حيال فكرة التقدم الحتمية، يرتبك أمام خيال التاريخ الذي يتجاوز خياله، فتصبح الكتابة كنوع من تحسس الجسد للتأكد أننا مازلنا على قيد الحياة.

______________

بوابة الوسط

مقالات ذات علاقة

الفنان التشكيلي محمد الأمين… لوحات تفضح روح السجين

أسامة بلقاسم

نجاح بن علي : وجدت نفسي بطريق الشعر مبكرا

مهنّد سليمان

مأمون الزايدي عن “سيرة ذاتية للأحمر”.. وسؤال الترجمة

المشرف العام

اترك تعليق