المقالة

الأدب بين اشتراطات المذهب وافتراضات الذوق

حسن المغربي

يشترط في أي عمل أدبي وفقا لمعايير النقاد والأدباء أصحاب المدارس والمذاهب الفنية الالتزام بشروط وقوانين المدرسة أو المذهب ، الذي ينتمي إليه المبدع أو الفنان ، وبالرغم من تعدد النظريات والاتجاهات الأدبية منذ تأسيسها في عصر التنوير الأوروبي ، إلا أن افتراضاتالذوق كانت هي المعيار الصحيح أو الأكثر دقة في تقييم الأعمال الأدبية سواء أكانت نص شعري أو لوحة زيتية أو غيرها من المنجزات الفنية المختلفة ،وبالتالي فإن  الإدعاء الذي يثبت وجود معايير صحيحة وثابتة  في الأدب الذي يشمل الفن بصفة عامة ، هو إدعاء زائف ، لا ينتمي إلى قانون الطبيعة المؤسس على الاختلاف والمغايرة  بين الناس ، ومن يؤيد هذا الإدعاء أو يدعمه  ، فهو كمن يؤكد حقيقة خرافية لم تُثبت  صحتها أو أصالتها في أي عصر من العصور ..

 لكن هناك من يظن بأن الأعمال الأدبية  إذا  تركت لأذواق الناس وأمزجتهم المختلفة ولم تقنن وفقا لمعايير معينة متفق عليها ، فإنها سوف تضيع مع الزمن ، بوصفها نشازا مختلطا لصورة مشوهة واقعة  تحت مؤثرات الناس وطبائعهم  المتباينة ، ومن ثم يصعب تعليمها للأجيال القادمة ، وقد يأتي فريقا آخرا  ويقول لو أن الشعر مثلا لم يتقيد بمعايير خاصة كالقافية والموسيقى وغيرهما من الاشتراطات العروضية ، لضاع مبدأ التقييم والتفريق بين الشعر والنثر من جهة ، ويضيع معهما من جهة أخرى قانون المنهجية الموضوعية الذي ينادي به أتباع المذاهب العلمية ، وحينما نجازف بالمنهجية العلمية سنخسر كل الشيء ، فلم يعد هناك إبداع أو إتباع ، لذا فمن الأصلح والأصح أن نكون على ما كان عليه أسلافنا ، ونجدد وفقا لأصولهم  الموروثة التي اتفق على صلاحها و أصالتها العلماء القدماء . وإلى جانب هذا الفريق يقف اللغويون والنحويون والفقهاء والفلاسفة التقليديون وغيرهم من المهتمين بالعلوم الإنسانية بصفة عامة  موقفا واحدا ..

ينظر إلى الفطرة الإنسانية من الناحية الجمالية نظرة يختلف فيها علماء النفس والطب النفسي ، فواقع الفطرة وفقا لهذه الاتجاهات العلمية الصرفة تخضع لمبدأ المعيار الافتراضي المحقق في التجارب العلمية ، وقد اثبت هذا النمط من التفكير صلاحيته في العلوم الطبيعية والتطبيقية لكونها لا تحتمل التخمين أو الافتراض غير المحقق ، لكن  في تجارب أخري لا تحقق هذه الطريقة بالضرورة نتائج علمية مستوفية الشروط ، خاصة إذا كانت  الأشياء الموضوعة تحت الاختبار يتحكم بها الذوق أو الفطرة الإنسانية ، فلو ألقينا نظرة سريعة – مثلا – إلى الاتجاهات المعرفية التي ظهرت في الولايات المتحدة الأمريكية في نهاية القرن الماضي ، لوجدنا اهتماما شديدا بموضوع العلاقة بين الفرد وتصوراته تجاه الأشياء القيمية المختلفة ، ومن هذه الاتجاهات التي اشتهرت بمكانتها وأهميتها بالنسبة لشخصية الفرد كان  اختبار( حقل الاعتماد والاستقلال عن المجال الإدراك )، هذا الاختبار الذي وضعه عالم النفس الأمريكي المعاصر ( رونر )  احدث بمفاهيمه المعيارية خلخلة في توصيف الفطري المتأثر بطريقة التفكير المعتمد على الأب  أو العائلة ،  مع إلغاء كل تدريب أو مهارة يكتسبها الفرد من خلال التعلم ، ومن هنا وقع هذا العالم ( العجوز ) في إشكالية التنشئة التي تعتمد على مبدأ الجريمة والعقاب ، فكلما كان الطفل مستقلا في تفكيره عن الأهل والجماعة كان محبا  للرياضيات والهندسة وغيرها من العلوم التي تعتمد على البديهة السريعة في حل المشاكل المعقدة ، وكلما كان الطفل يخشى  سلطة الأب أو يعتمد على العائلة في حل المشاكل والمسائل المعقدة ، كان محبا للموسيقى والشعر والرسم وغيرها من الفنون المتعلقة بالعلوم الإنسانية ، هذا الاختبار المعلمن  – بالمعنى العلمي للمصطلح – برغم من تطبيقه في جميع قارات العالم ، ظهر بنتائج غير دقيقة مع إنه مستوفي شروط وأدوات المنهج العلمي الذي وضعه ( رونر ) .

إن ما اصطلح عليه بعلم الجمال أو الإستاطيقي منذ عصور الفلسفة اليونانية لم يكن يعنى  في حقيقة الأمر بالبحث عن معايير وقواعد منطقية للقضايا الجمالية  ، كما هو سائد الآن ، وإنما كان يعنى بمحاكاة الطبيعية لشيء آخر ، شيء  غير مرئي ، شيء وصف من قبل الرواقيين بالتناغم والتماثل بين السماء والأرض ، بين المثل السماوية وبين الانعكاس الأرضي ، هذا الشيء على وجه التحديد هو الذي أوجدته ( الأفلاطونية الجديدة ) في العلاقة القائمة بين الجمال والحياة ، تلك العلاقة التي لا تشترط في تقييم الأشياء الفكر العقلي الاستدلالي الذي يرنو دائما إلى  قواعد الحساب وفرضيات المنطق ، وإنما تشترط مرجعية ذاتية خاصة تتمثل في الحدس والبصيرة  لأنهما مصدر إثبات ونفي في الأحكام الجمالية .

ومن هذا المنطلق ، فإن أي محاولة تسعى إلى تفسير النص الأدبي بمعزل عن فرضيات الذهن والوجدان والضمير هي محاولة لا تمثل سوى نزعة خاصة أو فلسفة معينة ، وبالتالي، فإن المناداة  بمراعاة المنهج العلمي في توصيف المنجزات الفنية والأدبية والربط بينها  وبين أصالة المنجز ومدى أهميته في عملية الإبداع ، هي مناداة بقتل التجديد والحرية والإبداع في آن .

نعم هناك محاولات لا حصر لها أرادت أن تجعل النقد علما ذا أصول وقواعد عقلية ، وقد نجحت  هذه المحاولات في بعض الحالات ، إلا أن نجاحها كان مقصورا داخل حقل مفهومي معين ، وفي المقابل نجد حالات عديدة  لم توفق إلى شيء كثير ، لكونها فشلت ليس في الاتفاق فحسب ، بل فشلت أيضل حتى في فرض مفهوم معين للمنجز الأدبي المراد تدشينه .

إن  كل محاولة ترمي إلى فهم الأدب بطريقة ما هي محاولة ذاتية ، تخضع بصورة مباشرة إلى حكم التأثر وليس العقل ، وبالنظر إلى كتابات ( سانت بيف ) و ( تين ) وغيرهما من أصحاب التنظير في النقد الأدبي يتضح ذلك ، أما ( جول لمتر ) الذي يعد – في نظري على الأقل – أول منفهم طبيعية الأدب  فهما جيدا ، نجده لا يهتم بشخصية الكاتب أو الشاعر بقدر ما يهتم  باللذة أو بالأثر الفني الذي خلقه ،  فكل ما كان العمل الأدبي مؤثرا في النفس محركا لها ، كان عمل أصيل يخدم الشعور والأحاسيس ، ومن هنا فإن هدف الأدب الأساس  عنده : هو تفسير ما يطرأ على الذهن والوجدان ، وإبراز الانطباعات مع إهمال كل التفاصيل الحسية المتمثلة في ما تراه العين من مناظر طبيعية وغيرها ، بمعنى أنه أراد أن يكون الأدب مفسرا لمكنونات الحياة  من خلال تصوير ما تجود به القريحة وليس ما تمليه الذاكرة .. هذه النزعة الانطباعية  أول ما ظهرت في فرنسا على يد الأخوان ( جونكور ) في أواخر القرن التاسع عشر ، وقد ظهرت بشعارات تنادي بالتحرر من التقاليد الكلاسيكية الموروثة ، وبعد انتشارها في أوروبا دخلت أجزاء متفرقة من العالم ، لكنها في النهاية فشلت وأفلست عندما جوبهت بتكرار موضوعاتها ، وانحباسها في ذاتية المؤلف المحدودة ، فدافعتها مذاهب أخرى كالسريالية والرمزية وغيرها من مدارس الأدب ..

 أقول : لا يمكن القيام بعملية التحديث داخل إطار محدد يشترط في مشاهدة مسرحية أو مطالعة نص ، شعور معين أو انطباع خاص ، وكأن لشخصية ( هاملت )  لشكسبير أو ( اصرار الذاكرة  )  سلفادور دالي شعورا واحد ، وانطباعا واحدا ..

هناك من يرى بأن مسرح العصر الفيكتوري كله يقوم على احترام الملكية وتقديسها في بريطانيا ، وهناك من يرى غير ذلك ، هذا الرأي أو الشعور قد يكون لدى البعض أمر لا علاقة له بأشكال التنظيم والتقعيد في الأعمال الأدبية ، لكنه في الوقت ذاته يرتبط على الأقل بمبدأ حريةالإبداع ، تلك الحرية التي استطاع فهمها جيدا الشاعر الإنجليزي ( إليوت ) ، واستطاع فهمها قبله في العصر القديم ( اسخيلوس ) ، لقد استطاع هذان الكاتبان – على الرغم من تباعد الزمن بينهما – مجاوزة كل اعتقاد سائد قبلهم يحد من طموحهم وإبداعهم ، فإليوت رفض التعبير بلسان العصر الكلاسيكي ، وابتدع طريقة في التعبير أحدثت  تحولات جذرية في الشعر الإنجليزي إلى يومنا هذا ، إما ( ارسخيلوس ) فقد  تمكن من اختراع  ( ثلاثية ) قام بصياغتها على شكل درامي لا يمكن أن يقارن إلا بسيمفونية بيتهوفن من حيث سعة المجال والوحدة والتكثف ، و على الرغم من ممانعة  ( أرسطو ) وغيره من الكتاب ، فإن هذه ( الأثر)  العظيم عمل على توسيع نطاق الحبكة بإحداث انقطاعات كاملة في التمثيل ، ولولا إضافة ذلك الممثل،  لما كان لهذه التحفة الفنية أي دور في تطور تاريخ المسرح .

إن المنجز الأدبي  سواء أكان لوحة فنية أم بيت شعر هو إنجاز شخصي بالدرجة الأولى ، لا يتحكم به قواعد معيارية معينة ، إنه إنجاز يحتم الاختلاف والمغايرة ، إنه معطى فطري يقوم على حالة مزاج المبدع  وتفكيره المتاح ، أحيانا يمتثل للتقليد والتأثر ، وأحيانا يمتثل للابتكار والتجديد ، إنه تجربة تحتمل حينما توضع للتقييم إلى الرفض أو القبول إلى الاستحسان أو النكران ، وكل له قول وذوق وعقل يقبل ما يشاء ويرفض ما شاء ، ولأننا نحن البشر لا نعيش في مكان واحد وزمن واحد فإننا بطبيعة الحال مختلفون ، فلا يمكن أبدا أن نضيّق على الكتاب والفنانين والمبدعين  ونأمرهم بإتباع منهجا خاصا في كتابة الشعر أو في رسم لوحة معينة ، فكما كان لبول سيزان  أسلوبه الخاص ، فلبول ماتيس ، وبكاسو ، وسلفادور دالي أساليب خاصة بهم أيضا ، وكما كان لعنترة العبسي طريقة معينة في الشعر ، فإن أبا تمام والمتنبي وغيرهما من الشعراء طريقة خاصة بهم ، وقد يكون الشاعر أو الفنان معاصرا لشاعر ما ، لكن ليس بالضرورة أن يكون مشابها له ، ففي القرن العشرين مثلا كان محمد المهدي الجواهري يكتب القصيدة العمودية ، في نفس وقت الذي كان به السياب والبياتي والملائكة يكتبون شعر الحر أو التفعيلة ..

إن الدعوى إلى التحرر من الموروث ، ليست في حقيقة الأمر سوى تشجيع للإبداع والمبدعين ، إنها دعوى للخروج من التقليد الذي تقوقعت فيه الشخصية العربية منذ القرن الرابع للهجرة ..  إنها دعوى نقض و نفي لمحاكة الإسلاف في كل شيء ، في تفكيرهم ، في ذوقهم ، في معاييرهم الفنية وقواعدهم العقلية ، إنها  دعوى للخروج من الماضي ، والذهاب إلى المستقبل .، إنها باختصار دعوى نقل من الموت إلى الحياة ..

مقالات ذات علاقة

أين ليبيا التي عرفت؟ (34)

المشرف العام

مسرح ليبيا الشنابو

عبدالوهاب قرينقو

السحارية…!!

المشرف العام

اترك تعليق