استطلاعات

خريف القصيدة الليبية في زمن ثورة الربيع

خريف القصيدة الليبية

لايزال الليبي متمسكا بالصبر ومتيقنا أن ثورة فبراير/شباط 2011 ليست شرا كلها، وأن الخير لا محالة وعن قريب مقبل، رغم ما نتج عن مسارها من هزات خيبت ظن البعض في أن تحقق لهم الثورة ما كانوا ينتظرونه منها.
والشاعر في ليبيا واكب مستجدات التغيير الذي حصل، فكيف يقيم ردود الفعل الشعري منذ انطلاقه الثورة وحتى الآن؟ وهل يرى أن ملامح القصيدة الليبية تغيرت بعد الثورة، وهل تمكن الشاعر الليبي من أن يحطم (التابو) ويطرح مواضيعه بجرأة أكثر مما كانت عليه قبل ثورة فبراير؟ هذه الحزمة من الأسئلة أجاب عنها بشكل مختلف بعض من شعراء ليبيا ردود فعل شعرية متباينة.

الشاعرة عائشة إدريس المغربي تؤكد على صعوبة أن نحكم على ردة الفعل الفورية للشعر لأنها في الغالب تكون مجرد انفعال عاطفي لا يؤسس لحكم في المجمل (لردود الفعل الشعري)، وتضيف أيضا، لا أعتقد أن الشعر هو مجرد رد فعل لأحداث قد نعيشها أو نشارك فيها، فالإبداع لا يستطيع أن يؤرخ ويعكس مرحلة ما في الفترة نفسها. أما الشاعر عبد الوهاب قرينقو فيرى أن الفعل الشعري لم تكن له ردود فعل واضحة، أو دورا طيلة الخمس السنوات الأخيرة، نظراً لعزلة الشعراء عن المجتمع، وانقطاع علاقة المثقف بالشارع،
ويوضح عبدالوهاب أن الشعر الحديث ليس من مهمته شغل الفخر والتطبيل والتزمير، وإن كان من أجل ثورة أحبها الشعراء وكتبوا عن اقتراباتها حتى قبل أن تتحقق. هذه الثورة قال عبد الوهاب إن الكثير من الشعراء يسأل: هل تحققت فعلاً؟ أم أنها مجرد غيمة عابرة هطلت منها بدلاً من الغيث أشواك وأحجار وبارود ودماء؟

فيما توضح الشاعرة حواء القمودي أنه رغم عدم متابعتها لما كتب ويكتب على الضفة الأخرى المناهضة والمعادية لهذا التغيير، فربما هناك الحزن إلا أن هناك ردود أفعال صادقة، تعبر عن الابتهاج بالحدث المتمثل في التغيير. وتضيف حواء أن الشعر حين يكون رد فعل سيفقد الكثير من شعريته. وتقرر الكاتبة الصحافية أيناس حميدة أن ردود الفعل توالت بشكل دراماتيكي فقد بدأت بالحماس والتحريض والدفع للتغيير لتقدم أشكالا مختلفة. بينما يرى الشاعر رامز النويصري أن التجربة الشعرية في ليبيا كانت تبحث عن متنفس لها وظلت ترسم في نصوصها، حتى جاء فبراير بالتغيير، فكانت النصوص الشعرية صوتها وتعبيرا صادقاً لما يريد الشاعر والوطن. لكن التغيرات التي جاءت من بعد جعلت الشاعر يصمت، وهذا ما وافقه عليه الشاعر عبد الباسط أبوبكر محمد الذي بين أن ثورة فبراير أربكت الكثير من الأوراق والكثير من الشعراء، الذين توقفوا عن الكتابة والنشر بعد الثورة، وهذا ما يراه عبد الباسط أمرا محيرا جداً، فقد كانت الكتابة مشفرة بمجموعة من الرموز قبل الثورة وفي ظل القمع والتأويل الخاطئ.

الشاعر عمر الكدي يتفق مع الشاعر عبد الباسط فيؤكد أن شعراء الداخل عبروا بجرأة عن كل ما مرت به ليبيا، وكانت هناك روح حزينة في معظم إنتاج هؤلاء، ولكن الشعر لا يتعاطى مع السياسة أنه يومئ ويشير من بعيد، والمتلقي قادر على فهم الشاعر. مثلا قصيدة «رجل بأسره يمشي وحيدا» لمفتاح العماري، وقصيدة «بلاد تحبها وتزدريك» وقصيدة الجيلاني طريبشان «ماذا جئت تفعل في بلاد لست تعرف فيها أحدا»، وقصائد محمد الفقيه صالح وبعض قصائد سالم العوكلي وغيرهم عكست موقفهم من النظام السياسي ومن المجتمع وأرخت لفترة سوداء من تاريخ شعبنا بدقة وشفافية.
الكاتب الصحافي علي المقرحي يري أن تفاوت ردود أفعال شعراء ليبيا مما حدث في فبراير، تراوح بين صيغة تقارب الصدى الأبكم الذي تجلى في صور انطباعية توقفت عند تصوير الحدث، كما تبدى مع ما أحاط تلك الصورة من هالة المفاجأة وعدم التصديق، وبين التعاطي الحذر والقلق مما كان يحدث بوتيرة متسارعة، بل ومرتبكة كذلك.
لم يتغير شيء..

يعتقد الشاعر رامز النويصري أن القصيدة الليبية لم تتغير بعد فبراير 2011، وسبب ذلك أن القصيدة لم تنل الفرصة كاملة حتى تتغير. في ما تشير الشاعرة رحاب شنيب إلى أن التأثير كان واضحا في الشعر الليبي العامي أكثر من الفصحى لأن العامي كان رفيق المنابر وكان المعبر بصورة بسيطة غير معقدة واندفع إلى نظمه الكثيرون، ما أدى إلى تأثير سلبي في رؤاه وفقده للحس الروحي، أما القصيدة الفصحى فكانت بحسب رحاب بعيدة عن تأثير الجمهور، خاصة مع غياب النقد الذي كان شبه معدوم خلال هذه المرحلة وغياب المجلات الثقافية التي كانت رافدا للأدب الليبي، وغيابها ساهم في تغييب صورة الشعر الليبي وجعلته مبهما .الشاعر عبد الوهاب قرينقو أشار إلى أن القصيدة الليبية لم تك لها ملامح واضحة وثابتة قبل فبراير 2011 لتتغير بعده. ويقرر أن سبب ذلك هو الشعر الشعبي الذي سحب البساط أكثر من تحت أجنحة القصيدة الفصحى، التي أخفقت في مواكبة أحداث الثورة، حسب رأيه. أما الشاعر عمر الكدي فيرى أن القصة والرواية في ليبيا هي الأقدر على الإحاطة بما جرى منذ تفجر ثورة فبراير في 2011، ويؤكد الكدي أنه على مستوى الشعر لم يتغير شيء، بسبب أن الأحداث العظيمة والسريعة والمباغتة تحتاج إلى زمن حتى تنضج شعريا.

الشاعرة عائشة إدريس المغربي ترى أن الحكم مازال مبكرا على التجربة الشعرية في ليبيا بعد هذه التغيرات، في ظل الفوضى على الأصعدة كافة, فيما تبين أن الهجرة نحو الشمال زادت كثيرا عن السابق. وتقترب من هذا الرأي الشاعرة حنان محفوظ التي ذهبت إلى أن النص الشعري في مكوناته لم يتغير بينما تغير في الفكرة التي يتناولها، وتضيف حنان أن أي آراء حول تغير القصيدة وملامحها بعد الثورة ستبقى مجرد آراء انطباعية يمكنها أن تعكس فقط بعض الجوانب في النص الشعري، ولكنها لا تتعمق فيه، بسبب أنه لم يتم حصر للنصوص كمنتوج شعري، التي نشرت خلال هذه الفترة حتى يتم فرزها وتقديمها بموضوعية.. وهذا ما توافق عليه الشاعرة حواء القمودي بقولها، إنه حتى نرصد ملامح التغيير في القصيدة الليبية يجب إحصاء كل الشعر الذي كُتِب ونُشِرَ، ثم تبدأ عملية القراءة والنقد لاكتشاف ملامح التغير عند كل شاعر وشاعرة، وهذا في نظر حواء القمودي ليس عملاً هينا، ويحتاج وزارة ثقافة حقيقية، تخصص ميزانية لتوثيق مدونة الشعر الليبي قديماً وحديثاً ودراسته واكتشاف ملامح أجياله.
وبشكل مختلف يقرر الشاعر عبد الباسط أبوبكر أنه بسبب اتساع أفق الحرية، فقد تغيرت الأساليب الشعرية جذريا، ومجالات كتابة القصيدة، وشكلها العام، وأسلوب نشرها (اللحظي) بعد اتساع استخدام مواقع التواصل الاجتماعي، وفي السياق نفسه تقريبا ترى الكاتبة الصحافية إيناس إحميدة أن فبراير 2011 قدمت أشكالاً مختلفة للقصيدة فبرز منها شعر المغتربين الجدد والمنتصرين، ولكن ذلك كله كان من دون تقديم لغة مميزة ومتفردة، وكانت القصيدة تنسج في قوالب متشابهة ومكررة لا تحمل بصمة كما لا تختلف على واقع الشعراء المتخبط بين الرغبة في التغيير، وبين تقديم الواقع بكل ما وصل إليه من بؤس وحاجة لنص يترجمه في ظل عدم وجود بدائل واضحة.
أما الصحافي علي المقرحي فيشير إلى أن الالتزام بقضايا الوطن والإنسان هو سمة تميز القصيدة الليبية الحديثة، التي لا يعيبها ولا ينتقص من قيمتها ما يضيفه كل شاعر من واقع خصوصيته الثقافية والذاتية من ملامح عليها ونقوش ووشوم، بل يزيدها بهاء.

الشاعرة رحاب شنيب تقول إنه رغم أن الشاعر يسعى دائما للتغيير باحثا عن الخلاص من القبح حالما بالعيش في مواطن الجمال، آملا بأن يكون العالم مزركشا بألوان زاهية، يود لو بإمكانه أن يغير العالم بكلمات سحرية، ولكن الواقع يبقى واقعا، وبينما ينظر البعض إلى الشعر بأنه ترف، يطالبه الآخرون بأن يكون كتفا يحط عليها المقهورون أحلامهم
من تابو واحد إلى تابوات متعددة.
الصحافي علي المقرحي يرى أن الشعر بحكم طبيعته أكسير حياة لا يختلف في شيء عن الماء والهواء، وهو مثلهما أيضا، إذا ما اعترضته الحواجز وضاقت به السبل بحث عن منافذ عبر تلك الحواجز والسدود والتابوات، ليصل عبرها إلينا نحن الذين في حاجة إليه. والشاعرة حنان محفوظ ترى أن النص الشعري بعد الثورة لم يكتمل من حيث الموضوع نظرا للظروف الاجتماعية والثقافية والسياسية، وهو ما ينعكس بعدم استقرار أي جانب آخر من الجوانب المهمة كالشعر والفن في ليبيا.

وفيما يرى الشاعر رامز النويصري أن صوت الشاعر بدأ يخفت، والحريات صارت أضيق من قبل. يعتقد الشاعر عبد الباسط أبوبكر أن الشاعر الليبي تجاوز حالياً، وبشكل أكثر جرأة، التابو الذي كان مفروضا ويدلل على ذلك بنماذج كثيرة، تتضح بمجرد تصفح بعض الصفحات التي تعنى برصد الشعر العربي أو الليبي، لنكتشف العمق الذي اكتسبته القصيدة الليبية في ظل هذا القلق المزمن الذي يعتري الواقع.، وتؤكد الشاعرة عائشة المغربي أن ما حدث في ليبيا كسر حاجز الخوف من السلطة القمعية الحاكمة، ولكن السلطة الدينية التي حلت محلها أضحت اكثر قمعا وشراسة وتخلفا ووحشية لهذا فما أن سقط (التابو) السياسي الديكتاتوري حتى صعد تابو أكثر بشاعة وهو (السلطة الدينية) وصارت رؤوس القصائد والنساء تحت قنص هذه السلطة، توافقها في هذا الصحافية إيناس حميدة التي توضح أن التابو تحطم كما تحطمت كل القيم الاجتماعية التي كانت تغلف المجتمع الليبي، وصار بالإمكان تضمين النص الشعري الكثير، من دون خوف أو حياء أو اعتبار فما حمله التغيير طال كل شيء من ناحية وقيد كل شيء من ناحية أخرى.
ويؤكد الشاعر عبد الوهاب قرينقو أن تابو السلطة تحطم لينهض أمامه التابو الأخلاقي، والدلائل على ذلك هجرة الكثير من الشعراء الليبيين خوفاً من بطش المليشيات الحاكمة باسم الدين.
أما الشاعرة حواء القمودي فتقرر بوضوح أن الشاعرة الليبية هي الأكثر حضوراً وجرأة وقدرة على البوح وتحطيم التابو، رغم أن ثالوث (الدين والسياسة والجنس) مقدس، والمساس به والاقتراب منه يعرّضنا لمواجهة منظومة متراصة لا تقبل منا التلصص على هذه المحرمات حتى إبداعاً، فما بالك تفكيراً ونقداً ..!

_______________

نشر بصحيفة القدس العربي

مقالات ذات علاقة

لماذا يلجأ الكاتب الليبي للنشر خارج حدود وطنه؟ (1-2)

مهند سليمان

العمل الإبداعي بين إعادة التدوير وخصوصية الرؤية

مهند سليمان

أهل الرأي.. المثقف والنشء (2-2)

حسن أبوقباعة المجبري

اترك تعليق