من أعمال التشكيلي.. معتوق البوراوي
قصة

مونولوج

مروان بن جبودة

من أعمال التشكيلي.. معتوق البوراوي
من أعمال التشكيلي.. معتوق البوراوي

 

قلت لك إن هذا العقل غريب , عقل الانسان غريب , عقل أم مخ ؟ ! لا أعرف الفرق بينهم , ثم لماذا نقول ضرس العقل ؟! هذا الأخير الذي يمزق اللثه حتى يخرج ويظل يزعجنا طوال هذه المدة , ألمه فضيع ولا يحتمل , ما علاقته بالعقل  يقولون أنه دليل على تحلي صاحبه بالعقل أي نضوجه بشكل تام , أنا في الرابعة والعشرين وأنت تعلم جيداً أنني لا أملك هذا الضرس إلا في جانب واحد من فكّي السفلي , ” أنت بنصف عقل ” قالها لي مبتسماً الطبيب السوري أصفر الوجه كأن لا دم يجري في عروقه , قالها لي ذات مساء في عيادته عندما كان يصلح لي ضرس تكسّر عندما شربت الماء البارد , هو في الحقيقة لم يتكسّر في مرة واحدة , كنت دائماً أشعر به يتساقط ويذوب رويداً , أمرني أن أجلس في غرفة الأشعة ثم وجّه ناحية الضرس قطعة سوداء أظهرت على الشاشة تصويرمقطعي لفكّي وأشار لي في الصورة وقال : ” أرأيت أنت لم تكن تملك هذا الضرس من الأساس وربما ذلك أفضل , أفضل أن تستريح من الألم ” عذرا منك أعلم أنني أترك الفكرة الرئيسية وأتشعّب في مواضيع ليس لها علاقة وهذا الأمر يعود فعلا للعقل , هذا العقل غريب , عقل الانسان غريب , عقل أم مخ ؟! لا أعلم الفرق بينهم , ثم تلك الصورة التي رأيتها ذات مرّة في معمل المدرسة للكتلة الشحمية البارزة من نصف الجمجمة هل هي المسؤولة عن كل سلوكياتنا ! , أي أنها لوحة التحكم الخاصة بالجسم , قالت المعلمة ضخمة الذراعين والفكين بشكل غريب , قالت إن الجزء الأيمن من المخ يتحكم في الجانب الأيسر للجسم وأن الجزء الأيسر من المخ يتحكّم في الجانب الأيمن من الجسم , ولم تكن تهمني هذه المعلومة , كنت أود أن أعرف عن الذاكرة في هذا العقل , أين مكانها بالضبط وكيف تعمل ؟!

هل هي مبنى بطوابق عديدة وفي كل طابق عدد من المكاتب وفي كل مكتب رفوف من الملفات , ثم كيف يتم ترتيب هذه الذكريات هل هي مصنفة بالأسماء  أي أن كل شخص نقابله يتم تجميع الذكريات معه في ملف واحد حتى إذا خطر هذا الشخص في بالنا , تتدفق الذكريات تباعاً , أم أنها مصنّفة بالتواريخ فإذا ما ذكرنا عام ما أو فترة عمرية طفت الصور والأشخاص أمامنا , ولكن في ما يبدو  أن الذاكرة لا تختلف كثيراً عن أي أرشيف حكومي من حيث صعوبة البحث عن شيء ما , فهي تخوننا مرات كثيرة في الوقت الذي نحن في حاجة ماسة لها , فعندما أرغب في ذكرى ما سعيدة أجد عقلي شاشة سوداء مصمطة كأنه توقف فجأة عن العمل , في الوقت الذي يحتفظ بكل الأحداث المأساوية أو الأحلام المزعجة , نعم الأحلام المزعجة تبقى دائماً في الصدارة , ذكرت لك أن عمري أربعة وعشرون , هل تصدق أنني لا أزال ألى اليوم أتذكر – أقصد الذاكرة تذكرني – بكابوس وأنا في الرابعة من عمري , هل ترغب في أن أحكي لك ذلك ؟ نعم وكما كل أحلامي تكون الإضاءة شبه معدومة حتى أنني أبحث عن مفاتيح الإنارة ولا أجدها فإن وجدتها كانت المصابيح مكسورة أو أن ضؤها خافت كشمعة أمام هسيس الريح فلا هي تضيء ولا هي تنطفئ , نعم أكون أنا وسط هذا الحلم بلا حذاء حافي القدمين , لا أنظر تحتي ولكن أشعر بذلك ,  وحركتي بطيئة ورغم أنني في المنزل ولكن يبدو لي المكان غريباً وموحشاً ومظلماً وكأن الغبار والخراب يغطي كل شيء , ثم وأنا أتنقل بين الغرف , يتغير المكان من حولي , فأجدني وقت غروب الشمس في ذلك الضوء البرتقالي المستفز وأراني أقف على حافة حفرة سوداء عميقة , من داخلي أرغب في الابتعاد ولكن قوة ما تجذبني حيث الحفرة وأكاد أقع ولكنني أمسك بشيء ما محاذرا أن تبتلعني الظلمة ثم فجأة أكون أمام البيت وهذه المرة الوقت صباحاً وعلى خطوة مني باب المنزل , أدير رأسي يساراً وألمح من بعيد شخصين بلباس أسود يجريان نحوي وأشعر بأنهم ينويان إذائي أو قتلي , فأسرع لدخول البيت ولا أصل , كأنني مجسّم موضوع في قالب , حجر فوق حجر , أحاول بكل قوة أن أدخل البيت أن أصل لعتبته على الأقل , وأصرخ بكل قوة لكن الصوت لا يخرج , وإن خرج كان منخفض جداً , أقول بأنني متجمد ولكن هذه المرة أتحرك قليلاً كأنني شجرة تنزع جذورها , هم يقتربوا وأن أحاول الوصول إلى البيت كأنه  يبعد عنّي آلاف المترات ومرة واحدة أقرر أنه عليّ الاستيقاظ – لم أقل لك أننا جميعاً ندرك ونحن في أحلامنا أننا نحلم , كيف أفسر لك ذلك ؟ – ولكن لا أستيقظ فجأة إنما أدخل باب منزلنا في الليل وأنا طائر في الهواء , نعم انا طير كثيراً في الحلم ولديّ قدرات أخرى  , المهم أقول بأنني أدخل طائر وأعبر مدخل البيت ثم وسطه وأعبر بسلاسة إلى الحجرة حيث أنام فأجدني – أجدني  نعم أعجز أحياناً على أن أفسر بعض الأمور – أجدني نائماً كهيئتي عندما يحين وقت النوم فاقترب بسرعة وأعبر خلالي , هذا العبور يعقبه انتفاضة مفاجئة فاستيقظ كأنني خرجت لتو من قعر بئر سحيقة مملوءة بالماء , أشهق فجأة وهذا في الواقع لا في الحلم , فأرى حولى كل شيء طبيعي مشاعري والغرفة , ولكن الخوف لا يزول بسرعة , ماذا أفعل  أطبق الوسادة على رأسي محاولاً الهروب من شيء أجهله.

أرأيت كيف استطعت أن أصف لك هذا الحلم كأنه حدث اليوم رغم أنه قبل عشرون عام , ولكن المشكلة ليست هنا . أشعر أحيانا أن الأحلام تتداخل مع الواقع فيصبح الحلم ذكرى ما عشناها , وذلك الواقع حلم لا وجود له , هل تشعر ما أشعر به , فجأة تطفو الذكريات أمامك ورغم غرابتها لكنّك تقول إنها حدثت على كل حال , مرّة ذكرني شخص ما بحادثة حصلت معه فحاولت جاهداً أن اتذكر ولو مشهد بسيط حتى وإن كان ضبابي , ولكن الشاشة السوداء مرة ثانية فقلت ربما يكون حدث فعلاً أو أنه من خيال هذا الشخص , فلقد قرأت مرّة مقال لطبيب نفسي يقول فيه أن العقل يغشنا ويزوّر بعض الذكريات  فيصنع أحداث لا وجود لها إلا أنها رغبة دفينة تنبض في قلوبنا , ولقد قلت لك إن هذا العقل غريب , عقل الإنسان غريب , عقل أم مخ ؟! لا أعرف الفرق بينهم.

________________

نشر بمدونة الكاتب.

مقالات ذات علاقة

برقٌ آخر

محمد دربي

ليبوفوبيا ( الخوف من الليبيين)

محمد النعاس

انتخبوني رئيسًا

محمد المسلاتي

اترك تعليق