مدرسة الإعلام الأولى في مدينة صبراتة.
المقالة

مدرسة الإعلام الأولى في مدينة صبراته

حقبة الستينات …ذكريات الطفولة

نزولاً عند رغبة الجماهير غير العريضة في التقاط ما في جراب الذكريات ، ها أنا أروي :

علاقتي الحقيقية بمجال الإعلام بدأت مع عمر السبع سنوات عندما أطَّلت حقبة الستينات على ليبيا في وضع معيشي صعب ، كانت فيها أكياس الدقيق الحاملة للعلم الأمريكي توزع على المحتاجين عبر شيوخ القبائل في مدينة صبراته، وكان الأمر يتم بسلاسة مع شئ قليل من الضجيج طبعاً ، و ذلك عندما يجتمع المحتاجون الفقراء أمام دكان شيخ القبيلة الحاج “نصر” في الركن الجنوبي الغربي من بناية العم مصطفى وهيبة المصراتي .
كان بيتنا مؤجراً في نفس البناية الضخمه التي بُنيت على هيئة مربعة الأضلاع من دور واحد لا يتعدى علوها الخمسة أمتار” تقريباً ” في مواجه لجهة الشمال و الطريق الساحلي الوحيد ” حينها ” و المتهالك .

مدرسة الإعلام الأولى في مدينة صبراتة.
مدرسة الإعلام الأولى في مدينة صبراتة.

كان المحيط ملعبي ، ومراقبة الازدحام على الدقيق مع تفصيل طريقة التوزيع متاحة لي بسبب علاقة حميمية ناشئة مع الشيخ ” نصر ” غفر الله له ، رغم أننا كعائلة لم نكن معنيين بحصص الدقيق هذه ولا نستلمها ، لكن دكان الشيخ كان يجذبني بسبب علاقة فرضتها حاسة الشم عندي ، زيادة على طيبة الشيخ الأبوية ، فروائح الدكاكين وقتها في عام 1961 وما بعده ، وخاصة دكان الشيخ نصر ، كان له عبقاً مميزاً متشكل من تنوع المواد المباعة والتي يغلب عليها الصناعية ذات التحضير المحلي ، مع ما يتداخل معها من مواد أخرى تعبر عن حالة ثراء وارستقراطيه حينها كالشاهي والسكر والحلوه والصوابين التي بدأت بالقوالب الخضراء ، وزحفت عليها لاحقاً علب كارتونية صغيره لمساحيق بدأت معرفتي بها ، كالتايد ، أومو و برسيل ، لكن تحليل الروائح التي صاغت العبق العام يصعب تحديد مكوناتها ، فالقرفه ، والكركم وعائلة ما يدخل في صناعة البزار ” خلطة الحرارت الليبية ” كان متداخلاً مع مواد أخرى مكومة في الأركان ، والغريب أن تداخل روائح مكونات الدكاكين هذه ، كانت تشعرني بالألفة والحميمية وحتى نوع من السكينة والأمان..!!! ونادراً ما التقيتها في الأزمنه والحقب اللاحقة …

الشيخ نصر كان شيخ قبيلة ” أولاد شرف الدين ” وهي القبيلة التي فهمت أننا ننتمي إليها ، لم أعرف لماذا ؟ لكنني قدرت بسبب انتماء جدتي لوالدي وهي سليلة منطقة ” الطنيبات ” بصبراته ، التي كان فيها والدها منذ عهد الأتراك فقيهاً يُدرس القرآن والفقه ، ولندرة المتعلمين في تلك الحقبة ، فقد كان اسم جدتي الأول يسقط ليُنادَى عليها ببنت ” الفقي محمد ” ، ومن هنا قدَّرت أن مكانتها المتوارثَة هو ما يُحدث إضافة ما لأي قبيلة قد تقرر أن تنتمي اليها …

صبراته في الستينات باستثناء مساحة المعسكر التي كانت خارج نطاق المدينة الفعلي إلى حين ، كانت عبارة عن كتل محدودة جداً من المباني التي بُنيت في الغالب في العهد الإيطالي ، رغم أن نمط بعض المباني الخاصة يشير الى التأثير العثماني التركي أو لنقل الليبي المحلي ، في حين أن المباني المنتمية للمعمار الإيطالي ، هي واحدة في التصميم بين كل المدن الليبية ومتطابقة شكلاً وهندسة ومحتوى ، أذكر منها ما يُعرف بالقصر وهو مقر الحكومة في كل الأنظمة المتعاقبة ، ومحطة القطارات ” الاستسيوني ” ، والكنيسة … بقى منها اليوم في صبراته القصر والكنيسة ولو أنها شوهت قليلاً ، مع زوال محطة القطارات كلياً مع خطوط السكة الحديدة التي أستبدلت لاحقاً بطريق معبد مؤدي الى منطقة ” الخطاطبة وقاليل ” ، لكن البنايات عندي ارتبطت بمن فيها لا بشكلها ، فعلى يسار بيتنا وفي المواجهة ، بيت مستقطع يسكن فيه آل ” الكيب ” من ناحية ومحطة بنزين عمي صلاح الدين الخطابي من الجهة الغربية ، أما من ناحية شمال هذا المبنى فكان مقابلاً للجامع العتيق ، وهناك كان يجلس شخص طاعن في السن ، أحببته وأدوام على التوجه اليه لمصافحته ، ليبادلني الابتسام والسؤال وأحياناً أطيل الحديث معه ، وهو ” غانم الكيب ” فوجهه ناصع البياض ولحيته البيضاء كذلك ونظافته المميزة ملفتة للانتباه ، مع تقاسيم وجه هادئ يبعث على الراحة والسكينة وكثير من الاطمئنان ، ومن بيته خرج الكاتب الليبي الكبير ” نجم الدين غالب الكيب ” على ما أذكر .

وبما أن الجد غانم مقابل للجامع فعادة ما يلفت الانتباه عند الصلاة أو انتهائها حركة إمام مسجد صبراته العتيق والوحيد حينها بعمامته الأزهرية الوحيدة في المدينة وهو الشيخ محمد التاجوري ، الذي كان حاضراً بقوة ، إما أوقات الصلاة ، أو في دكانه المقابل للسوق الرئيس ، وعندما أدخل دكانه ، وعادة ما أصطنع الأسباب لذلك ، أجد نفسي في مكان لا يمكن أن يقنعك بأنه مجرد دكان ، ولذلك كنت دائم التردد عليه طفلاً لتحيته وأحيانا لشراء غرض ، وقد تلمس هو عندي ارتباطي بمحتويات دكانه غير المرتبطة بالبضاعة ، فالمكان عبارة عن متحف ثقافي تتكدس فيه الجرائد من العهدين التركي و الإيطالي ، كما يغص المكان بالكتب ، وهو الوحيد في الستينات الذي تجد عنده الصحف كصحيفة طرابلس الغرب ، وما تبعها لاحقاً من صحف ، إلا أن صحيفة طرابلس الغرب كانت هي المسيطرة على التواجد الدائم بنسخ محدودة طبعاً ، وكنت عند ازدهار وضعي المادي في أحيان ، أقصده لاقتناء الصحف رغم صغر سني .

لكن مبنى آخر في صبراته مقابل لمبنى عمي مصطفى وهيبه من ناحية الجنوب كان عبارة عن سور على أرض جرداء ، هو موضوع سطوري اليوم ، إذ كان علو السور لا يتعدى المتران وهو قديم حتى بقياس عام 1960 وغير متناسق رغم استقامته في أضلاعه الأربعه مع وجود بوابة له وتميزه بحلقات حديدية مثبته فيه على أبعاد متساوية من الداخل ، وكان فندقاً للحمير والبغال وما في حكمها – أكرمكم الله – ، كان المكان يثير اهتمامي لحبي للحمير من حيث أنها تتيح فيما لو تمكنت من ركوبها بين الحين والآخر وعن طريق أقرباء ، إلى إشفاء غليل فروسية كامنة في نفسي ، لم تنشأ بالضرورة من قصص بطولات الآباء والأجداد فحسب ، بل دخلت عليها وحتى سيطرت مشاهد التصقت في ذاكرتي ذات يوم عندما شاهدت فيلماً أمريكياً للممثل ” جون وين ” مع الهنود الحمر ، وهو الفيلم الذي حدد اتجاهاتي السياسية من الإمبريالية الأمريكية من حيث نشوء ميل ومناصرة للهنود الحمر وليس لجون وين ، قد يسأل بعضكم كيف تأتّي لي مشاهدة أفلام في ذلك الزمن ؟؟ ولهذا قصة أخرى ليس وقتها ، لكن انتمائي الطوعي للهنود الحمر استمر ، وأستعين على إثبات هذا الانتماء بالتقاط ما يسقط من ريش دجاج جدتي لأثبتها في مؤخرة رأسي ، وساعدني تجعد شعري على تحقيق الأمر ، فلم يكن شعري كما وصفه عبدالحليم حافظ ” على الخدود يهفهف ويرجع يميل ” من حسن حظ الهنود الحمر ….

إهتمامي بالمكان ” الفندق ” وهي كلمة لا تُنطق بطريقتنا الآن التي تغلب عليها الفخامة اللغوية ، بل بطريقة تدلل على الاستحقار بكسر الفاء واستبدال القاف بلفظها الليبي ” إلْـفِـنْـدِڨ ” ، قادني الى الاهتمام بمديره الوحيد ” عمي ضو ” الذي كان قصير القامة ، رثّ الثياب ، أعمش العينين ، متميزاً بنشاط غريب طيلة الوقت ، فلا أتذكر أنني رأيته ساكناً ، بل لا أتذكر أنني رأيته حتى واقفاً لا يتحرك … كان الود بيننا كبير تدلل عليه الابتسامات المتبادلة وليس الحوارات شبه القليلة ، وهو ودٌ لم تفرضه مصلحتي الشخصية في تعلقي بالحمير ، لكنه فُرض بسبب لطفه ، رغم أن لا وقت كان لديه لإيضاح هذا اللطف ، فهو دائماً كان على عجلةٍ من أمره ، لاهتمامه بكل الدَّواب التي يستضيفها فندقه ، أما أيام السبت ، فتنعدم إمكانية التحدث معه ، إذ أنه في ذلك اليوم تستقبل فيه صبراته المدينة سوقها الأسبوعي ، حيث يتوافد سكان ضواحي صبراته ( المدينة ) من كل حدبٍ وصوب ” خرسان / دحمان / سوق العلاقه / النهضة / الطنيبات ” بل إن السوق كان يجذب سكان المدن المجاورة كالعجيلات وصرمان وغيرها ، وكانت الدواب وقتها هي الوسيلة الأبرز بل الوحيدة لسنوات ….

مع مرور الوقت والتصاقي بمحيط الفندق والمباني المجاورة ، اكتشفت وظيفة أخرى لعمي ” ضو” غير رعاية الدواب ، والسهر على راحتها ومراقبة حركات تمردها أحياناً ، إذ كانت وظيفة مفصلية هامه لم يَقم بها غيره إلا مرة واحدة وفشل هذا الذي حاول لأنه لم يكن مقنعاً وسأتجاوز عن ذكره ، فقد كان عمي ضو الإعلامي الوحيد في المدينة الذي يمارس المهنة ليصبح ” مؤسسة في رجل ” ، فهو من يصيغ البيانات الإعلامية ، وهو من يلقيها ، وهو الذي يحرص على إيصالها عبر ذبذبات صوته لمركز المدينة ، إذ كان يشغل وظيفة ” براح ” وهو الشخص الذي يجول معلنا بصوت عالٍ أمراً ما يُطلب منه إبلاغ القوم به ، ورغم ما تبدو عليه الوظيفة من دونية عند البعض وقتها ، لكنها كانت مهمة لانعدام أو شح كل وسائل الإتصال السمعي البصري حينها ، لكن عمي ضو ، لم يكن برَّاحاً عادياً ، بل كان فناناً محترفاً بالفطرة ، مدركاً لكل آليات الجذب اللازمه لخطابه ، فقد كانت إعلاناته بطريقة منمقة تلفت الإنتباه صياغة ، وتشد إلقاءً ، ولا تخلو من تنغيم مدروس بعناية لفنون الإلقاء وهي خصائص تجمعت بتلقائية ملفتة .

في بداية اكتشافي لوظيفته هذه ، ونظراً للعلاقة الحميمية معه ، كنت أتتبع خطواته مصغياً لإعلاناته رغم أن مواضيعها لا تعنيني في شئ ، فأراقب تفاعلاته و ردود أفعاله ، خاصة عندما يَحس بأن الانتباه له في موقع من مواقع التجمع قد قلّ ، فيبادر لآليات جذب بتنغيم مختلف يفرض الالتفات إليه ، وكنت معجباً به أشد الإعجاب …

بما أنه لا يتبع أي جهة حكومية ، وقد كان مؤسسة إعلامية مستقلة ” دون ترخيص مكتوب ” على الأغلب ، فقد كان يتقاضى أجراً زهيداً عداً و نقداً على جهده هذا وفق ما يجود به الزبون دون أن يحصل خلافاً على القيمة التي يبدو بأنها حُددت ضمنياً في المجتمع ، إلا أن الملفت في الأمر ، هو آلية العلاقة مع المستفيد من الإعلان ، فقد راقبت هذا الأمر بدراسة طفل مشدوه للعملية ، إذ كان المستفيد يشرح موضوع الإعلان لعمي ضو ، ، تاركاً له حرية التصرف في الصياغة والأسلوب اللذان يراهما أكثر ملائمة لتحقيق الغرض ، وهذا أمر يستوقفني إلى اليوم ، وحتى أنني ذكرته لأحد كبار المسؤولين عند استدعائي لاستشارة اعلامية ، وكنت وما زلت أردده على زملاء أداروا مؤسسات إعلامية ، وأطلب منهم أن يحددوا مستهدفاتهم ولا يتدخلون في آليات ولغة الرسالة وكيفيتها ، فذلك شأن تتدخل فيه الفطرة مع المتميزين قبل أن تُفصِلَّه السطور المعرفية التي تدرس في كليات الإعلام وفي أكثر الأحيان لا تكون نافعة ….

أكاد أسمع همهة لتساؤلات داخل مهتمين أحترمهم وهم يقرأون هذه السطور عن مواضيع الإعلانات ؟؟؟

حسناً كانت المواضيع الرسمية نادرة جداً سواء تلك الصادرة من مؤسسات الدولة المتمثلة في القصر الحكومي أو الكيانات القبلية ، والتي كانت تصب جلُّها في الأمور التنظيمية والإجرائية للحياة ، كطلب التواصل مع مكتب حكومي أو الاتصال بشيوخ القبائل أو غيره ، أما أغلب الرسائل الإعلانية فقد كانت لحالات فقدان ممتلكات وأغلبها ” حمير ” ، وهذا الأمر يتحول إلى فعل المطرقة عندي حتى اليوم ، إذ يعتريني إحساس بما أن الضياع سائد لكثير منَّا تماماً كحمير الأزمنه الغابرة ، فليتنا نجد في هذا الزمان من يُبَرِّح على ضياعنا ، لعل فاعل خير يدل على منقذ ليعود بنا إلى ديارنا حيث فطرتنا السليمة..

بقى أمر واحد أختتم به هذه السطور … عمي ضو شخصية مكافحة أحببتها وسكنتني ، ولم تغادرني ، ولذلك منذ سنوات عندما عملت في شركة إعلامية وتقرر أن يكون لها صحيفة إعلانية ، أحببت تخليده هو قبل وظيفتة واقترحت تسميتها “البراح” ، وقد ظهرت في طرابلس جريدة ” البراح ” لزمن ، والمتميز في الموضوع أن الفنان الكبير الاستاذ محمد الزواوي قد تم اقناعه برسم الشخصية ، وهكذا كان ، محمد الزواوي الذي عندما حدثته بموضوع تعلقي بالاسم ، قهقه وقال :

” أنت يا ياباني عندك حاجات غريبة “
إذ كان يناديني بالياباني لسبب آخر قد يأتي روايته … غفر الله له …

رحم الله عمي ضو الذي لا أذكر إن كان له أهل متبقين ، لكنه ترك بفطرته ولطفه ذكرى تفيق بين الحين والحين ، وها هو يعود بذكراه بعد أكثر من نصف قرن ، وأدين له بدروس الإعلام الأولى التي لا تدرس حتى اليوم … وليته يدري بأن صديقه ذلك الطفل الذي كان يتبعه ، قد تشرف منذ أعوام بتأسيس أول إذاعة في صبراتة ودرب كوادرها ” صبراته إف إم ” وكان لجهد الخيرين دور مفصلي في مساندتي ولولاهم لما حدث شئ ، لتبقى المؤسسة قائمة بغض النظر عن تقلباتها .

عزالدين عبدالكريم
14 / 1 / 2019
ملاحظة : الصورة المرسومة هي للفنان الراحل محمد الزواوي خاصة بصحيفة ” البراح “

مقالات ذات علاقة

نحن الثلاثة

منصور أبوشناف

وين ثروة البترول.. الحبوني وحِقبة الاستقلال الليبية

محمد دربي

مربع السردين بمثلث الباراكودا !؟ ..

الحبيب الأمين

اترك تعليق