الروائي الليبي إبراهيم الكوني
النقد

“مجوس” إبراهيم الكوني.. في البدء كانت الصحراء

محمود حسني

(كاتب ومترجم من مصر)

الروائي الليبي إبراهيم الكوني
الروائي الليبي إبراهيم الكوني

“لن يذوق طعم الحياة مَن لم يتنفس هواء الجبال”، هكذا يبدأ الأديب الليبي إبراهيم الكوني (1948) ملحمته الروائية “المجوس”. صدر العمل للمَرَّة الأُولى منذ أكثر مِن 25 عامًا (1990) على جزأين، وأُعيدت طباعتُهُ للمرّة الثامنة عن دار سؤال العام الماضي.
في “المجوس”، كما في “حرب نهاية العالم” للبيروفي ماريو فارغاس يوسا، و”في انتظار البرابرة” للجنوب أفريقي جون ماكسويل كوتزي، الحاصلين على نوبل، يظهر على نحوٍ لافتٍ كيف يُمكن للكاتب أن يُعيد صياغة العالم في كتابٍ.

عالم بعينه، يتقصَّدُهُ الكاتب في عمله، يُفكِّكه ويُعيد تشكيله مِن جديدٍ في قالبٍ روائيٍّ تمتزج فيه الأسطورة بالتأريخ، متراوحًا بين التخييل، والارتكاز على شبح لما هو واقعيٍّ. والطريقة، أو الصوت الأدبي، أو اللغة التي يحكي بها الكوني عن الصحراء، تُجبر القارئ على أن يتساءل، كيف يُمكن لأعين الكاتب أن ترى كل هذه الزوايا، في مكانٍ مثل الصحراء، تبدو للوهلة الأُولى فقيرة العناصر، لكنها في حقيقتها موضوعٌ شديد التفرُّد والقوّة.

يستثمر الكوني في “المجوس” تاريخ الطوارق بغزارةٍ وإسهابٍ. هذه المجموعة البشرية التي انفصلتْ عن التركيبة السكانية لجبل نفوسة وزوارة وجبال الأطلس والمغرب الأقصى، لتتنقل في جنبات الصحراء الكبرى، مُتغلِّبةً على طبيعتها القاسية المتقلِّبة الحادة، مكوِّنةً في الوقت نفْسه مجموعةً مِن العقائد والعادات التي أورثتها لأجيالٍ متتابعةٍ ولآلاف السنين؛ وهو الشيء الذي أوجد هذه السمات الطبقية “البطريركية” المكوِّنة للشخصية الطوارقية في هذا الفضاء/المكان بعزلته الصفراء اللانهائية.

يظهر في العمل فلسفة الصحراء وجوهرها في التعامل مع إشكالية الحياة والموت؛ ليس هناك نصٌّ أوحد تُشكِّل منه هذه الجماعاتُ نظرتَهَا لهذه المعضلة الوجودية، بل يبدو الأمر ابن تراكمٍ لتعاليم وشرائع الوثنية والتوراتية والقرآنية، كلّها تبني هيئةً ما للتصوُّر الذهني للطوارقي المتجوِّل، الذي رفض الاستقرار في الواحة؛ ليظلَّ مُحافِظًا على فطرتِهِ النَّقية الأُولى، التي تطوِّع كل التعاليم والشرائع التي مرَّت عليه، يجد مِن خلالها مرجعيته كما يجد دربه بين رمال ورياح الصحراء.

لا يحتاج الكوني في ملحمته أيَّ امتدادٍ خارج الصحراء، فضائه المكاني الأثير. كل القيم والعقائد والتحوُّلات يُعيدها الكوني لمنشأٍ صحراويٍّ، على صورةٍ خاصةٍ، وكأنَّ الصحراء هي أصل الأشياء، هي أصل هذا العالم.

في رواية “المجوس”، الصحراء للطوارق لا غيرهم، فالغرباء هنا كائناتٌ هزيلةٌ شريرةٌ، خيالاتٌ باهتةٌ تمرُّ سريعًا وتختفي. “جاء إلى الصحراء البكر الأغراب والمغامرون واللصوص انتهكوها ونهبوا كنوزها”.

تبدو شخوص الرواية وكأنها كائناتٌ مستلبةٌ قلقةٌ شقيةٌ، كلّما زاد دورها وحضورها، ظهر شقاؤها جليًّا. فالصحراوي صوفيٌّ بالفطرة، يجد سعادته في الحيرة الدائمة والتقلُّب في المعاناة.

تتنوَّع المادة التي يُشكِّل منها الكوني عوالم ملحمته مِن الأساطير والحكايات والحوارات والأشعار والأقوال المأثورة والأمثال. يحرص على مدِّها باستشهاداتٍ تُقارب في تنوُّعاتها تنوُّعات عناصر عالمه.

فالعمل أقرب ما يكون للمتاهة الروائية، وعبر المتاهة يستعين الكاتب بالاسترجاع الزمني كبطلٍ رئيسٍ في أسلوب السرد.

تركيبةٌ سرديةٌ مُعقَّدةٌ ومُتداخلةْ، تمازجتْ فيها كل عناصر الصحراء. بحثُ أهل الصحراء المستمر عن “واو” أو الفردوس المفقود وشوقهم إليها، تلك الجنة التي طُرد منها جدهم الأكبر “مندام” بعد أن تطاول وذاق اللقمة المحرّمة، ليضع لثامه على فمه، ويتيه في الصحراء رفقة المرأة التي تدثَّرتْ.

الدراويش والحكماء استعانوا بصفاء القلب وبصيرة العقل، فأيقنوا أنَّ واوهم عندهم في صدورهم، والباقي رأوها في ذلك المسحوق الملعون التبر، ذهب الجن، رأوها في الثروة، في الجاه، في المرأة، من دون أن ينتبهوا أنَّ في نهاية الحكاية: كفن، تعدَّدت الرُّؤى، الأمكنة وطرق البحث، وبين هؤلاء وهؤلاء يبرز المجوسي الحقيقي، هذا الذي قد يفعل كل شيءٍ مِن أجل التبر، تراب الذهب.

“الخير ينحرف عن الطريق ما إن يتحوّل إلى طريقةٍ، الخير خيرٌ ما بقي بكرًا طليقًا يسرح في البرية على هواه، فإنْ مسته يد بني آدم وتبنّته طريقةً، انقلب، كالماء والهواء، إذا حبستَ الماء ركد، وإذا سجنتَ الهواء فسد”.

شخصيَّات تبدو كعالمٍ قائمٍ بذاته: زعيمٌ كان قدره حكم قبيلة استلمه باكرًا، أمسك العصا مِن الوسط وأصرَّ عليها محتكمًا إلى “آنهي” كتاب الصحراء الضائع… درويشٌ طيب القلب، طاهر الروح انحدر مِن سلالة الذئاب، ودانٌ إنسيٌّ حقَّق أمنية زوجةٍ، ليهجر السهل ويتطاول على الجبل الذي أبرم عقدًا مع الجن، فارسٌ نبيلٌ دمَّرَهُ العشق وقدَّس “الوعاء”. وآخر ملعونٌ بالعطش وسط رمال الصحراء، سلطانٌ هرب مِن مدينة الذهب؛ ليقيم “واوا” في صحراء آزجر ويرنو إلى المعدن الذي يهابه أهل القبيلة. أميرةٌ أرادت امتلاك قلوب الرجال، فخسرت الرهان. نذيرٌ آثر العمى على رؤية الظلم، وقاضٍ سعى للانتقام خلف حجّة تطبيق العدالة. عرَّافٌ أصابته سهام العشق، إمامٌ وعرافةٌ أعماهما حب الذهب، وتاجرٌ تمرَّد على نواميس الصحراء. لكلٍّ لعنته.. لكلٍّ حكايته.. كجزءٍ مِن أسطورة الصحراء كأصل العالم.

____________________

نشر بصفحة جيل.

مقالات ذات علاقة

الشاطئ الرابع.. والسرد بين زمنين

إنتصار بوراوي

رواية جاييرا- شيطان اللغة وجنون السرد

عائشة إبراهيم

قصائد الفاكهة

محمد الأصفر

اترك تعليق