المقالة

لِمَن الفيدرالية؟

منذ 2011 لم يتوقف الحوار الصاخب حول الفيدرالية وأحلام الكثيرين لإعادتها إلى البلاد كصيغة سياسية تلبي طموح بعض سكان الشرق الليبي، غير أنني أجد هذه الحوارات رغبات أكثر من كونها مشروعاً علمياً يهدف إلى النهوض بليبيا أو حتى بجزئها الشرقي، إنني لهذا أحاول هنا أن أجيب على سؤال العنوان أعلاه بشكل علمي منطقي مبسط، يستند على قراءة محايدة لتجارب الفيدرالية في عالم اليوم:

الفيدرالية تُوَحِّد المُجزأ
الذين يعتقدون أن تطوّر الإمارات العربية المتحدة بسبب فيدراليتها لا يعرفون تاريخها، فاسمها واضح: إمارات واتحدت! وكان من المفترض أن تنضم لها قطر والبحرين، فقبل 1971 كانت إمارات منفصلة، أراضي بعض إماراتها مبعثرة بين الإمارات المتجاورة ومتداخلة معها، مما عرقل مشاريع التنقيب عن النفط – سبب تطورها- وشركاته المصاحبة، إذ كان أخذ التصاريح وأذون المرور تستنفد جهداً كبيراً في مساحات صغيرة جداً! فرأت في النظام الفيدرالي فائدة حيوية لاقتصادها، هي إذاً وحّدتها الفيدرالية.

للدول عملاقة المساحة
أمريكا وروسيا وكندا والبرازيل وأستراليا شاسعة المساحة متنوعة الطبيعة بين البرودة والحرارة والسهول والجبال الوعرة والصحاري، لذا يصعب على العاصمة إدارة مدن الأطراف والوديان فيها، كما يصعب عليها معرفة مشاكل سكانها وإيصال الخدمات إليهم، فوجدت في الفيدرالية الحل المناسب رغم أن مصاعبها بدأت تتقلص مع وسائل الاتصال الحديثة والحكومات الإلكترونية، إن دولنا الإسلامية القديمة كالأموية والعباسية والفاطمية والعثمانية كانت تطبق الفيدرالية كذلك، فقد كانت مساحاتها عملاقة إضافة إلى تنوعها العرقي واللغوي، فقسمت أراضيها إلى ولايات وأعطت للوالي صلاحيات أقرب إلى الحكم الذاتي، حتى أن الدول الأوربية اضطرت إلى إعطاء صلاحيات السفير لقناصلها في الولايات العثمانية رغم وجود سفير لها في اسطنبول لذات السبب: شساعة المساحة واختلاف اللغات والأديان بحيث يصعب على السفير تعميم تعليمات موحدة على قناصله في ذات الدولة.

للدول متعددة الأعراق واللغات والأديان
الهند تَجْمَع أعراق وأديان ولغات مختلفة جداً، ولولا انفصال بنجلاديش وباكستان عنها لكان تنوعها أكبر، كذلك هي البوسنة على صغر حجمها وسويسرا وماليزيا وأسبانيا ونيجيريا، لكنه ليس تنوع فردي مبعثر على أراضي البلاد وإنما يتركز في مناطق محددة من الدولة تعيش فيها الأعراق كأغلبية تمارس فيها لغتها ودينها وعاداتها، الأهم هو أنها تفتقر إلى شعب واحد غالب حتى تتعامل مع الآخرين كأقليات وطنية، لا أتحدث هنا عن أصول تاريخية ذائبة أو لغات منقرضة وإنما معايشة واقعية يومية لأديان ولغات وعادات، فلا بد وأن تكون هذه الدول فيدراليات ليعطى كل إقليم حرية سن قوانين تتماشى مع حياته اليومية التي تختلف من إقليم لإقليم.

للدول الجزيرية
جمهورية جزر القمر الصغيرة الفقيرة وماليزيا الضخمة المتحضرة إضافة إلى الكثير من الدول/الجُزُر التي لا نسمع بأسمائها إلا في البطولات الرياضية الدولية هي دول فيدرالية، لأنها مجموعة جُزر متباعدة مختلفة المساحة والبيئات الطبيعية، حتى أن المرء يستغرب كيف صارت دولة واحدة! لذا يصعب على الحكومة المركزية توفير خدمات الكهرباء والماء والهاتف إليها مثلما يمكن في الدول ذات الأرض الواحدة، بمعنى ليس من السهل على الحكومة المركزية طرح حلولا ناجحة موحدة يمكن تطبيقها على كل أراضي الدولة، فكان لابد أن يكون لكل جزيرة مجلس تشريعي خاص بها يختص بدراسة المشاكل المميزة لجزيرتهم واستنباط الحلول لها التي تختلف بالضرورة عن حلول باقي جزر الدولة.

لكن ليبيا ليست هذا ولا ذاك!
أرض ليبيا لم تكن منفصلة ولا مبعثرة، أرض موحدة من مصر إلى تونس والجزائر منذ 1551 على الأقل كما أوضحت في مقالات سابقة لي، ليست عملاقة المساحة، ولا عوائق طبيعية وعرة تعيق اتصال مدنها ببعضها، ليست مجموعة جزر كذلك! يسكنها شعب امتزجت مكوناته الأفريقية والأمازيغية والعربية والأوروبية والآسيوية حتى صار واحد تقريباً شرق وغرب وجنوب، ليس هناك سوى مذهبين لدين واحد ولباس واحد تقريباً وذات المطبخ (كسكسي وبازين وفتات)، بل أن الشعب والثقافة الليبية تمتد حتى خارج حدودنا، إذ من المعروف أن بعض سكان صعيد مصر وشمال تشاد والنيجر والجنوب التونسي والشرق الجزائري هم ليبيو الأصل يتحدثون اللهجة الليبية، فلم ينادون بالنظام الفيدرالي؟

ها قد أوضحت أعلاه أن الفيدرالية ليست حل لنا، لأنها حل سياسي، بينما مشكلتنا مركزية إدارية صارمة، وخير ما يحلها هو النظام البلدي، لا بنقل العاصمة ولا بالفيدرالية، فنقل العاصمة ليس سوى نقل للمركزية وشرورها من مدينة وجهة إلى مدينة وجهة أخرى، إن إلغاء المركزية في تقديري (والذي هو مطلب أغلب سكان العاصمة) لن يكون إلا بـ«تحييد» العاصمة أياً كان مكانها، و«تقزيم» دورها على حساب النظام البلدي، ففي دعمه مادياً لن تكون العاصمة بعدها إلا «مركز بحوث وطني موحد عام» لوضع ومتابعة تنفيذ السياسيات العامة للبلاد، أما تحقيق مطالب الناس العادلة فلن يكون إلا عبر مجالسها البلدية، التي تمول مصاريفها من استثمارات البلدية داخل نطاق حدودها إضافة إلى نصيبها السنوي العادل من دخل الدولة السنوي، أما من يتقاعس من أعضاء المجلس أو يقصر أو يخطئ في أداء واجبه لخدمه ناخبيه، فما أسهل أن ينتخبوا غيره من سكان البلدية، من الذين يعرفون جيداً قدراته ونواياه، بحكم الجيرة.

____________

نشر بموقع المستقل

مقالات ذات علاقة

الانتخابات الرئاسي والعقدة الاساسية

خالد الجربوعي

إعلامٌ لا يُؤنثُ.. إعلام لا يُعولُ عليه

فاطمة غندور

السادس عشر من سبتمبر

محمد قصيبات

اترك تعليق