المقالة

كلام غير مسؤول وغير جاد.. سيميائية الرأي، والرأي الآخر

تبقى الحقيقة التي تبرهن عليها مستندة دائماً لا إلى بداهتها الخاصة, بل إلى برهانها… “غاستون باشلار”

… عندما قاطعني صديقي غير الحميم, معترضاً على ألفاظ الاحترام والخطورة والأهمية والأدب.. الخ, وإن لا علاقة لها بحرية الكلام, أضاف:

– إذا سمحت لي.. دعني أكمل فالحكاية كلها لا تعدو سوى أفعال الكلام (الاجترار), لا نهاية التأويل.. فمقولة مثل: الرأي.. والرأي الآخر.. وادعاءها بالتنوع والديمقراطية, فإنها تعد مقولة سلطوية ديماغوجية, ذلك لأنها لم تخرج عن خطاب الهوية (الأنا والآخر), والذي لا يفكر إلا في منظومة واحدة ووحيدة, هي ثنائية القيمة الأوسطية (الصواب والخطأ).. في حين أن المطلوب التفكير فيه هو الرأي- الصفر, أي الاحتمال بتعدد تأويلات هذا (الصفر) الرأي.. أو حسب تعبير “نيتشه”, خاصية الاجترار, فلسنا سوى كائنات مجترة شئنا أم أبينا ذلك.. والاقتراح الممكن للخروج من هذه المنظومة المفاهيمية لحدود (الهوية): احتمالية  الرأي.. فهناك العديد من الآراء.

وكما أثبتت أبحاث “ميشال فوكو” في (أركولوجيا المعرفة), و”بول ريكور” في (التاريخ وانتهاء أسطورة العلمية فيه), واعتباره مجرد حكايات (سرداً) !!?.. وإن التطور المعرفي الذي حدث للإنسان (منذ أرسطو إلى زمن نيتشه على الأقل !!).. لم يكن سوى تطور لتقنيات الاجترار أو ما نسميه التأويل.. المهم دعنا من هذا الموضوع لأنه نظري وعلمي بالمعنى التخصصي, وقد لا أملك له أدوات وعدّة للخوض فيه بشكل دقيق, فيما يخص الكفاءة والأهلية المعرفية.. وقد يكون من الأمان أن نعود إلى موضوعنا, قبل مقاطعتي, فقد كنا نتحدث عن تقصير أجهزة الدولة الثقافية, ولا أستثني هنا رابطة الكتّاب والأدباء كشخصية اعتبارية وليس كمجموعة محددة من الكتاب والأدباء, تطرح تساؤلات, شرعية ومشروعة منها: من هو الكاتب أو الأديب الذي يشتغل ويكون جديراً بالتالي باتهامنا بالتقصير!?.. وأين هي المشاركات الليبية (الإنجاز والإنتاج) في المشهد الثقافي العربي?.. بغّض النظر عن الروتين والترتيبات الإقليمية (جامعة الدول العربية والمنظمات الإقليمية للأمم المتحدة وغيرها).

أي إنتاج يذكر في هوامش ومراجع الكتب والدوريات العربية?.. وأنا أتذكر الآن حادثة محددة, وهي رسالة (دكتوراه) عن الشعر الليبي الحديث, بجامعة القاهرة, تعدها باحثة ليبية شابة, إن فكرت بأنه لا يعقل أن يكون بحثاً علمياً عن الشعر الليبي وليس هناك مرجعاً نقدياً ليبياً.. فسألت أحد الكتاب (ناقد معروف!?), فأقترح عليها كتاب له وآخر (لناقد معروف!?).. وعندما قرأت الكتابين شعرت بالخجل العلمي والإخراج الوطني فيما لو تقدمت  بهما للأستاذ المشرف على الرسالة, وأهملت الفكرة لأنها كما قالت لي- مجرد هذيان ولا علاقة لهما بالنقد لعدم إطلاعهما بالحد الأدنى بالنظريات النقدية الحديثة.. (وقد ذكر لي صديقي غير الحميم الأسماء وتفاصيل أكثر, ولأنني لم أستأذن من الباحثة, فإننا سنحتفظ بها.. ومن يريد ذلك من الناحية التوثيقية والمهتمين بالمشهد الثقافي عليهم الاتصال بأمين التحرير أو مشرف الملف!!)

وأضاف!.. بصراحة بدون عقد اضطهاد أو إدعاء بالعزلة أو الإحساس بالمؤامرة والتهميش.. فأين هم المفكرون والفلاسفة (أنصاف الآلهة) المكرسين والمعمدين, والذين فرضوا علينا وتحت تسميات مللنا منها: رموز ثقافة وطنية, أعلامنا, ببلوغرامية المؤلفين والمبدعين الليبيين, فإن العزلة والحصار والتهميش قد فرضها الكتّاب والأدباء في بلادنا على أنفسهم, نتيجة لعدم الشغل والقراءة والمثابرة في البحث والإطلاع, ولا تبالغ فتقول ما يحدث في مراكز البحث العلمي في العالم, بل فقط متابعة ما حدث في الجوار (مغاربياً), بدلاً من متابعة أخبار نجوم المحفل والصدى لفنون (المشرق) إقامة العلاقات الشخصية وتبادل الأسابيع والوفود الثقافية الرسمية. وأعتقد أن البحث في ذلك سيكون مفيداً وعملياً بدلاً من (الدوخه) والتساؤل عن المستهلك (القارئ) أو القطيعة بين الكاتب والمتلقي, فيجب أيضاً الكلام عن إشكالية الكتابة والكاتب والأديب, وتحديداً عن الكفاءة والأهلية, وفيما بعد بالإمكان توجيه اللوم والإدانة أو الاتهام للمؤسسات أو للمتلقي..

ولكن إذا كان الحديث عن أي من المناشط الثقافية مثل معرض للكتاب, فإننا نكون أمام مسؤولية مباشرة للمؤسسات, ويكون كلام “الغزالي” ليس صحيحاً (فقط) بل (يجب) وكل الينبغيات (ج ينبغي) وبلغات العالم أجمع, المطالبة بالتساؤل عن.. الكتاب, وعدد دور النشر والعناوين وتنوعها والأسعار وما إلى ذلك.. ولكن ما يحدث هو العكس تقريباً, وللمفارقة العجيبة, فإن ما كتب وقيل, عفواً كتب فقط لأن ما قيل كان في مرابيع الثقافة حسب تعبير “الغزالي”, وإذا أخذنا مثالاً معرضين للكتاب وآخر معرض دولي لكتاب الطفل, واللذين أقامهما مجلس تنمية الإبداع الثقافي, على هامش ندوة الطفل العربي في بنغازي لاتحاد الكتّاب العرب, وهو إحدى منظمات الجامعة العربية. ولم نقرأ سوى الشكر العميق والتمنيات بالتوفيق والنجاح لهذا المجلس وحسن ضيافته (مهمة حكاية الضيافة هذه!!?).. ولا أقول هذين المعرضين كانا فاشلين, وخاصة الدولي للطفل, وهو عبارة عن لعب أطفال وبعض الكتب التجارية ولا قيمة تعليمية أو معرفية بها.. فقد تقول فيه رأيك, وهناك آراء أخرى (تأويل) لا ترى ذلك.. فأقول لك لن نختلف بشأن معلومة (إخبارية وتقريرية).. هل يعقل أن يقام معرض (دولي) في خيمة لا يتجاوز طولها عشرين متراً وعرضها أربعة أمتار تقريباً وفي مدخلها لافتة كبيرة جداً تقول: المعرض الدولي لكتاب الطفل.. وبدون احترام للحد الأدنى من احترام العقل حتى بالنسبة  للأطفال.. ومن لا يصدق بإمكانه أن يزور بنغازي, فإن هذه الخيمة  أقيمت في جزء (وليس كلها) من شرفة مركز دراسات وأبحاث الكتاب الأخضر- بنغازي.. فهل من حق  أي مثقف, يحترم عقله, أن يطالب بالتعويض عن الأضرار النفسية والتي سببتها له هذه اللافتة الجارحة!?، ولا نتكلم عن نوعية الكتب أو الأسعار!!، كذلك فإن من أشرف ونفذ هذين المعرضين هي دار نشر خاصة (هانيبال), وحتى لا نقع في أوهام اللغة والصفات المجانية.. لا نقول دار نشر وكفى, فهي من حيث الترخيص, أما الحقيقة (معلومة إخبارية!) فهي دكان بالفندق البلدي (3×3 متر تقريباً) وليس لها فروع أخرى.. ولك أن تتخيل عدد الكتب أو العاملين في هذا الدكان.. ولماذا هذه الدار?.. وكيف تمت الأمور?.. وكيف تمت توجيه الدعوات لدور النشر والدول المشاركة (وهي لم تتجاوز أربع دول تقريباً)؟.. وكيف كانت آلية مراقبة الأسعار?.. ومئات من علامات التعجب والاستفهام لها أول وليس لها آخر.. وهي ما تجعلنا نتساءل عن المعرض الدولي للكتاب القادم, وهل هو ضمن خطه استراتيجية وعملية وقابلة للتنفيذ?.. أو ما هي الخطوات الإجرائية من أجل تنفيذ أهدافه, والتي وردت في قرار إنشائه, وهي محددة وواضحة ودقيقة?.. أم سيكون مثل نشاطات المجلس السابقة والتي غلبت عليها العشوائية?.. وبعد أن (ينتهي العرس) يتم التفكير في آخر كيفما أتفق!! أي بعد انتهاء اللجان, الإعداد والتنفيذ, والمابعد, أي من المراجعة والتسوية الإدارية وللمبالغ التي صرفت.. الخ.. كذلك فإن تعبير (العرس) ليس من قبيل الاستهزاء أو المزاح فهذا ما لا أريده, بل هو إن عاشت بنغازي عاشت عرساً حقيقياً.. وورد في مقاله بصحيفة الجماهيرية, لأحد كتابنا المرموقين, ضمن كثير من المقالات  والتي تتزامن مع مثل هذه المناشط.. وأنا هنا لا أعلق أو أعترض على أي رأي (تأويل) فتلك حريتهم, بل الاعتراض فقط على أن العرس كان لنا نحن الأصدقاء والمحاسيب فقط, الذين حضرنا وأكلنا وشربنا وفرحنا وعشنا ذكريات جميلة.. أما أوصاف بنغازي  وثقافة وإبداع وفاعليات.. فلندعهم في حالهم وشأنهم فقط.. وأريدك أن تجيبني على هذه الأسئلة وغيرها,وكما اشترطت عليك في بداية حديثنا.. فقلت له:

بصراحة  أسئلة كثيرة, كما أنني قد لا أستطيع أن أجيب على معظمها, وربما يكون المجلس نفسه له القدرة وأكثر كفاءة وأهلية للإجابة عليها.. ولكني أستطيع القول إن هذا المجلس نشأ حديثاً وينتظر منه الكثير, ولكل بداية عثرات, وخبرته وإمكانياته الثقافية والفنية والإدارية قد تكون متواضعة..وعليه التزامات مالية كبيرة, حيث أنه في صدد بناء مبنى إداري ضخم  ومهيب يستنزف كثيراً من الجهد والأموال و.. وقاطعني بقوله:

على أية حال إنك تتحدث عن الأمنيات والتمنيات, فأقول لك إنني مثقل ومتخم بذلك حد الثمالة, ولكنه الأمل ولا نملك غيره.

_______________________

صحيفة الجماهيرية.. العدد:3985.. التاريخ:02-03/05/2003

مقالات ذات علاقة

هذه تجربتي أنا

الصادق النيهوم

نسيجُ العنكبوتِ

مفتاح العماري

كلاسيك (100/22)

حسن أبوقباعة المجبري

اترك تعليق