النقد

كاشان: مشروع الروائي الخلّاق

الروائي يعيش في عالم لوحده يرى أشياء مُتخيلة، يفترس لحظة بكاء طفل ليسرد حول ماهيتها عشر صفحات في كل صفحة تتدحرج كرة الحياكة بعيداً عن فعل البُكاء. الروائي أيضاً يسترق ما يمكنه استراقه من عالمه المحيط ليصنع عالم روايته الخاص به، اسم ما قد مر عليه، عمل قد سبق وأن جربه ولو قليلاً، وجعل ما تبقى من ما يتعلق بالعمل رهن مخيلته، حدث أو جلسة كئيبة يتذكرها بتفاصيل متقاطعة ليضمدها بتفاصيل من ذهنه …

تمتد يد أحمد البخاري إلى الحياة المحيطة حوله؛ ليقتطف منها ما يستطيع، لأن ينشئ رواية ما ، يستعمل القليل من التمويه مع الكثير من الخيال؛ ليصنع الهيكل التي ستقوم عليه جماليتها، ومن يعرف أحمد – ولو قليلاً – سيكتشف بعض من مسيرته الحياتية داخل الرواية – رغم أنه يحذر القارئ من هكذا ظنون – بدءاً من الفصل الأول حيث مدونة ” تابو ” التي كان أحمد يدون فيها ما يدور في رأسه من ” محرمات “؛ لتكون قصة مدونته إلى عمله الصحفي، كاشان يمتزج فيها الخيالي بالواقعي حتى لا تدري أين أنت؟

يستخدم أحمد أسلوب نجيب محفوظ في روايته ميرامار، حيث قسم روايته على شخصيات قوية الحضور في الرواية، حتى يعتقد القارئ أن البطل هو أحد هؤلاء المتكلمين، وهي عملية سهلت عليه توزيع الأدوار، والقص بطريقة أفضل؛ للتخلص من ربكة البطل الواحد، والذي يجد العديد من الروائيين صعوبة في المُضي به نحو نهاية الرواية؛ تقسيم دور البطولة أو إيهام القارئ بتقسيمه كان نهج أحمد في كاشان، وهو يغافل القارئ في ذلك، العملية الروائية في الصعود نحو النهاية .. أو في حالة كاشان النزول نحوها؛ لأنها لم تكن سوى البداية التي تبدأ بها الرواية أُجلت حتى الخاتمة .

 أحمد البخاري_كاشان

لكن كاشان أكثر من كونها رواية غير مركزية في شكلها الحاضر حول ماهية البطل، فهي رواية الشباب الليبي، الرواية التي تجمع عينات الشباب الليبي المُعاصر الأربع : رائد الانترنت، المثقف، ” الرديف “، و الملتزم دينياً .. يخوض كل منهم في قصة حبه بالبطلة ” ندى “، والتي يخط الروائي نتائج تركيبها وتحولها من ” بطل ” إلى آخر، أيضاً يجمع أحمد المعلومات ويسردها حول كل نوع من هذه الأنواع الأربعة. ما يجمع هؤلاء الأربعة هو كرههم لهذا العالم، وتأففهم منه، إن الرواية تبحث عن مخرج من هذه الدنيا، ” نهاية قبل النهاية ” – كما يمكن أن يقال، البدء من الصفر .. التدمير الكامل للحضارة، وهذا ما تدور حوله الرواية.

لم يلتزم أحمد بأسلوب معين في روايته، بل قسم أسلوبه اللغوي إلى قسمين، القص باللغة الفصحى، والقص باللغة العامية – أو بالفلاقي في حضرة بلدنا -، وهو ما يعطيه طريقة للتعبير أكثر تحرراً من النص اللغوي التقليدي، وهو أمر يُحسب له من وجهة نظر وعليه من وجهة نظر أخرى، فمقدار حرية التعبير التي تلقاها من النص العامي أثرت على مُنحنى الرواية الجمالي رغم جمالية كلام العامية الليبية .

هناك بعض التقصير من أحمد في الوصف، فهو لا يحبذ الإمعان فيه بل يتخذ السرعة في تراكم الأحداث، وهذا ربما قد أثر على الرواية وزيادة الاستمتاع بها، فهو لا يقف كثيراً ولا أقل من “كثيراً ” ليصف لحظة ما، بل يتخطاها لما بعدها مما جعل الرواية صغيرة الحجم يمكن أن تنهيها في ساعات وأنت لا زلت تتذكر بدقة كل شيء حدث فيها – وهذا ربما أمر جيد – .

النهاية صادمة، غريبة، تدحض كل ما بناه القارئ حول ماهية الرواية وأبطالها، وكيف يمكن لها أن تنتهي – في مسيرته لمعرفة النهاية المُستعجلة – ، وهو ذكاء من أحمد أرجو أن أرى مثيله في رواياته القادمة، المشهد الذي أغلق به الرواية كان مُبهراً وجمالياً وفاسخاً للتخيلات .. وهو أمر يُحسب له بالتأكيد ، فالرواية .. كل الرواية من الممكن أن تنهار مهما كانت جميلة أمام ضعف الخاتمة؛ لكن أحمد نجى من الفخ الذي تضعه النهاية للروائي .. جعل القارئ بين أمرين : أن يصدق أن ما حدث في الرواية هو من صنع خيال ” ندى ” البطلة، أو أن يعتقد أنها لم تسرد سوى قصة ما حدث وهنا جمالية الرواية.

أحمد هو مشروع روائي خلاق، لن أستغرب إذا ما كانت روايته القادمة أكثر تعمقاً وتجذراً في التجربة الروائية، وهذا ما لي أملٌ فيه،

تحية بلحن كاشان لاحمد البخاري !

مقالات ذات علاقة

اللغة وأبعادها في قاموسية القصة القصيرة للأديب سالم العبّار

عائشة بازامة

هارموني الغموض

نورالدين خليفة النمر

النص الشعري النسائي الحديث في ليبيا

المشرف العام

اترك تعليق