من أعمال التشكيلي الليبي عبدالقادر بدر.
تراث

عين وطارت

من أعمال التشكيلي الليبي عبدالقادر بدر.

“عين وطارت”
تقولُهَا جدَّتي كلَّما نابَنِي مكروهٌ ما..!!
في كلِّ مرَّةٍ لا أستوعبُ كلامها، لا أدري فحوى عبارتِها التي تطلقُهَا رصاصةً سريعةً تتبَّع أثرَ أيِّ شيءٍ يؤلمُنِي ..

“عين وطارت” وفي كلِّ مرَّةٍ أطلقُ بصري خلفَ العينِ التي طارَت علَّنِي أراهَا .. أتخيَّلُ جناحيها .. أتصنَّتُ اصطفاقَهُمَا .. أتصوُّرَهَا تشقُّ السَّمَاءَ بهما لتختفيَ عن كلِّ العيون ..!

ما هذهِ العينُ التي تُسْقِطُنِي أرضًا مرَّةً .. وتعرِّضُ عنقي للذعةِ جَمرةٍ ملتهبةٍ تسقطُ من بطنِ رغيفٍ يحاولُ خالي كَسْرَهُ ..!؟
في تعثُّري المتكرِّرِ بأرمامِ بيتِنَا.. في لسعَةِ الفلفلِ الحَارِّ الذي أحاولُ تجربَةَ أكلِهِ .. في وطأةِ رجلِهَا على رجلي مرَّةً على الأقلِّ في اليومِ، في تأذِّي عيني بحبَّاتِ رملٍ تتطايرُ إليها أثناءَ لعبي في الرمالِ.. وبالرمالِ كلُّ هذا تفعلُهُ العينُ اللعينَةُ… وتطيرُ..!؟

ما الذي فعلتُهُ لتلكم العينِ المجرمةِ لتُكيلَ لي كلَّ هذا الأذى وتطيرُ..؟!
ما حجمُ ولونُ هذهِ العينِ التي تؤذيني على نحوٍ فظيعٍ..!؟
ثمَّ أينَ هي.. ؟ أين تختفي بعدَ كلِّ فعلةٍ شنيعةٍ معي .. ولماذا تختفي ..؟
أريدُ أن أسألَهَا عنها .. لكنني أُحْجِمُ رغبةً في أن أقبضَ على العينِ بنفسِي .. سأقلِّمُ جناحيها .. سأنتفُ أهدابَهَا .. وأمحو سوادَهَا وأعبِّئَهَا بالتُّرَابِ ..

” عين وطارت ” .. طارت .. طارت ..
تنفضُ يديها من بقايا الرَّمَادِ .. تستديرُ في مكانِهَا .. تتلمَّسُ صُرَّةَ ملابسَ خلفَهَا .. تستدنيها.. تخرج منها إبرةً وسلكًا .. تنتفضُ لوخزةٍ منها .. تضعُ إصبعَها الموخوزَةَ على لسانِهَا.. تبرِّدُ الألمَ بريقِهَا .. تتحسَّسُ عينَ الإبرَةِ .. بعدَ محاولتينِ تُدْخِلُ طرفَ السِّلْكِ فيها، وتبدأُ في رفاءِ ثوبٍ قديمٍ .. أسارعُ إلى طمأنتِهَا بعبارَتِها ذاتِها ” عين وطارت “..
تهزُّ رأسَها موافقةً.. تكتفي بتنهيدةٍ طويلةٍ .. وتمضي ترفو ثوبها ..
أنظرُ في عينيها المًطفأتينِ .. يُخَيَّلُ إليَّ أنهما طارتا .. !!
أربطُ بينَ عبارتِهَا المُكرَّرَةِ ” عين وطارت ” التي تضعُهَا مرهمًا على أوجاعي الطارئِةِ، وبينَ عينيها اللَّتينِ طارَ منهما النُّورُ تمامًا .. لم يبقَ غيرُ مكانِهِمَا .. فتحيتينِ غائرتينِ تبدوانِ لي كَفُوهَتَي جَوْربٍ قديمٍ .. مجرَّدَ ثقبينِ بُنِّيَّيْنِ هجرُهُمَا النُّورُ والبصرُ والفرحُ فانكفآ على سواديهما تذكارًا للنورِ الذي كانَ .. للبصرِ الذي خانَ.. للفرحِ الذي أدبر.. !!

أثرُ دمعتينِ تتسايلُ من ركنيهما .. ولطخَةُ طمزٍ على حوافِّهِما ..
أمدُّ يدي لبرَّادِ الشَّاي فلتذعني حرارَتُهُ ..أصرخُ ملءَ وجَعِي .. تسندُ لوعتي بـ ” عين وطارت ” تتلمَّسُ يداها مكانَ الوجعِ في يدي لتغرقَهُ بلعابِها المِرْهِمِ .. لعابِهَا البلسَمِ.

من بينَ سيلِ الدُّموعِ والألمِ المُدَاهِمِ أَمُدُّ بصرَي إلى السَّمَاءِ .. أجوسُ إثرَ عينٍ طائرةٍ .. عينٍ مشاغبةٍ تقرصُنِي بعنفٍ ثمُّ تفرُّ إلى لا مكانٍ..!؟
حينَ يتسرَّبُ الدمعُ إلى فمي أنتبِهُ إلى لا جدوى البحثِ عنِ العينِ الطائرةِ .. أسكتُ قليلاً كفاصلٍ إعلانيٍّ.. ثمَّ أواصلُ بكائي مغيِّرًا نبرةَ صوتي للفتِ انتباهِهَا .. تزحفُ خلفًا دونَ أن تقومَ.. تمدُّ يدَهَا إلى (نضدة الدبش) وتطلعُ لي قطعةَ حلوى .. تشرقُ أعماقي لمرآها دونَ أن أتوقَّفَ عنِ البكاءِ.. أنفضُ يدي في الهواءِ محاولاً نفضَ الوجعِ عنها .. وأقبضُ بالأخرى على الحلوى .. ويبدأ بكائي في الانخفاضِ حتى السكوتِ.. !!

(كِلْهَا ) .. تأمرنُي بهدوءٍ.. يخفتُ صوتي .. أحاولُ طرحَ الغِطَاءِ عنها .. أشعرُ بالألمِ .. أبكي قليلاً وأسكُتُ .. أبكي قليلاً وأسكت .. أبكي… ثم أسكتُ لأدفعَ بالحلوى إلى فمي .. تتهلَّل ملامِحُها سرورًا لسكوتي. . ولصوتِ الحلوى تتقلَّبُ في فمي ..

يسيلُ لعابي مُلَوَّنًا بألوان الحلوى .. أمسحُ عينيَّ فتتعسَّلانِ .. أشعرُ بالفرحِ وهي تتابِعُنِي بحواسِّهَا جميعِها، ثمَّ تَحُفُّنِي بحنَانِها قائلةً ” كِلْ يا باتي .. عين وطارت “

____________________

#يتبــــــــع …….

مقالات ذات علاقة

قصيدة (حواء) للشاعر حسين الرياني

يونس شعبان الفنادي

أمي في جنات نعيم

حسن أبوقباعة المجبري

الخـير بناسه

المشرف العام

اترك تعليق