قصة

عنف تحت المجهر

سيناريو: حسام الدين الثني. رسم: سالم بحرون.

 

إيشيريشيا كولاي E. Coli:

بكتيريا قولون لطيفة. ودودة جدا وفوق هذا مفيدة في التخمّر المعوي، غير أنها – وإن كانت خيِّرة في الأغلب – تتحول تحت ظروف محددة ودقيقة إلى كائنات مُرعبة وقاتلة. إنه من المؤسف لها أن يضطر الحقل العلمي إلى تصنيفها تحت بند (مُـمْرِضات تحت الفرصة).

تَعلَّمَ سُكّان هذا الحي أنهم إذا ما أرادوا العيش بسلام فلا بد لهم من اتفاق ضِمني يُجَرِّم الإيذاء. حيلة تطورية يمارسها سكان كل الأحياء: (تنازُلُ كلِّ فرد عن قَدر لا بأس به من حريته المطلقة للإيذاء =  ضمانا شخصيا لكف الآخرين عن ممارسة حريتهم المؤذية). حِصنا أخلاقيا متماسكا، اللهم ثغرة واحدة: (لا يرعى هذا الوِدَّ الإحساسُ بقيمة الآخر، بل خَشيةُ قوة عُليَا ينظر إليها الجميع برهبة وانجذاب).

سالم، 23 عاما:

وضعُه الـمُريح في الـمَشفى يُحرِجُه أمام زملاء التطوع الـمُنتظرين عودتَه سالما إلى جبهة القتال: “ما باليد حيلة” يقول، إنه مريض. “ليس على المريض حرج”. مصاب بجرثومة لا مرئية لم يَـخْتَبِر شخصيا وجودَها، لكنه يثق في سلطة تشخيص الطبيب (ما دام يفهم أكثر منه).. عليه إذن أن يُجزِم بوجود هذه الكائنات الخفية.

يميل غالبا إلى تصديق تصورات لم يضعها شخصيا موضع شك ومواجهة كافية للنقد، لكن هذا لا يجعله متعصبا، “إنه لطيف” يقول سُكان الحي، “ودود جدا وفوق هذا مفيد”. عليه أن يتماثل للشفاء ليعود إلى القتال.

لا يعرف سالم كيف يتساءل عن حقيقة هذه الكائنات التي تسبب له المتاعب. لقد فهم أنها فئة انتهازية قليلة لا تمثل حقيقة مجتمع E. Coli الودود. لكنه يجهل أن مجتمع هذه الكائنات تعلّم إذا ما أرادوا العيش في أمعائه سالما فلا بد له من حيلة تطورية: (الهدوء مقابل الحياة). ربما لو كان الأمر بيدها لكانت مُـمْرِضة في الوضع الاعتيادي أيضا. قد يعني هذا أنها اتخذت طوعا قرار أن تكون مسالمة. (أين يقع فعل الإجبار؟)، (وضع السلم أم وضع الإيذاء؟)، (هل تُبدّل هذه الكائناتُ حقيقتَها حين تصبح مؤذية. أم أنها تعود إليها؟). لطالما تنازَلَ كل فرد منها عن قدر لا بأس به من استعداده الفطري للإمْرَاض. بطريقة ما انتقل بعضُها إلى المسالك. (هل يبرّر وضعها الجديد سلوكَها الـمُمْرِض؟).

(هل وجود المبرر يساوي وجود الدافع؟ أم أن الدافع سابق لفعل التبرير الذي عَمَّمَهُ الطبيبُ بأثر راجع؟).

أسئلة شائكة لا يسعى سالم إلى الإجابة عنها، لأنه لم يتعلم بعد كيف يطرحها.

نشأ سالم في حي يتشارك فيه الجميعُ حماسا موحَّدا يحرك أذهانهم دون انقطاع، جاذبية مُلغزة إلى المشاركة في مِهرجان حربي مثير، صحيح أن هذا الميل يُعَد قبولا لفعل الإيذاء، لكنه ليس ميلا أصيلا، إنه حالة خاصة مسموح بها.  الكل هنا يحفظُ حدود الآخر؛ فقيمهم تجرّم فعل الإيذاء. كل ما هنالك أنها تستثني حالاتٍ محددةً ودقيقةً هذه واحدة منها. يمكنهم -حَصْرًا هنا – ممارسة فعل الإيذاء بضمير منتعش. إنهم مواطنون صالحون، لا يمكن أن يفرحوا لمعاناة أحد، لا يمكن لفردٍ منهم أن يشارك في جريمة قتل، لا بالفرح ولا بالدعاية. لأن القتل حرام.. أما القتل في الحرب فحلال.. الظرف خاص جدا ودقيق.

سالم لطيف وودود جدا، إنه خَيّر ولا يؤذي أحدا، ما دام لا يُسمح له بغير ذلك.

______________

نشر بموقع هنا صوتك.

مقالات ذات علاقة

يعيش الحاكم…تعيش الحكومة

إبراهيم حميدان

من القرية الى المدينة (2)

المشرف العام

رغيف خبز

حسن أبوقباعة المجبري

اترك تعليق