المقالة

عرق الضفدع

بوابة الوسط

(أكيرا كوروساوا 1910 – 1998) كاتب ومخرج سينمائي ياباني، نال شعبية واسعة وجوائز عالمية كثيرة. كتب سيرته الذاتية واستهلها بكلمات تصف حالته النفسية أسماها (عرق الضفادع) قال: “في سنوات الحرب كانت الشوارع تغص بالباعة المتجولين، فانتشرت مع هؤلاء حكاية مرهم الضفادع لعلاج الحروق. سمعت أن هذا المرهم السحري يحضرونه بالطريقة الآتية: بعد أن يصطادوا الضفدع، يضعونه في صندوق صغير، تغطى جدرانه بالمرايا. الضفدع المسكين المرعوب لتوه، يرى صورته منعكسة على هذه المرايا، فيبدأ بإفراز مادة دهنية، شبيهة بالعرق. يجمعون فيما بعد هذا العرق الإجباري من فوق جلده بكشطه ويغلونه لبضعة أيام. وهكذا يستخرجون فيما بعد من هذا العرق مرهما ثمينا، لا تجود به الأوقات دائما. 

أعتقد أن تكتب عن نفسك يعنى تماما، أنك تجلس بين أربعة جدران مغطاة بالمرايا وأن تحدق فيها. تريد أو لا تريد، تجلس وتراقب نفسك من زوايا مختلفة فتحس بأنك مختلف بعض الشيء عن ذاتك. هذا ما أحس به الآن، وما أحسست به في الماضي البعيد. ورغم أنني لست ضفدعا، فلأني أشعر كيف بدأت أتعرق لتوي. ولهذا أجدني أضع مقدمة لكتاب يشبه سيرة حياة أو اعترافات عابرة بكلمة أدق”. 

ما إن قرأت هذه المقدمة، حتى تداعت أمامي صورة خليفه الفاخري، وهو يكتب، متفصدا عرقا. كل الرفاق الذين رأوه وهو ينسل من بينهم، وينزوي بعيدا ويشرع في كتابة ما يعتمل في صدره، حتى يأخذ العرق يتقاطر من على جبهته، ويسيل على عنقه، ويبلل قميصه صيفا كان الوقت أم شتاء. والعجيب أيضا أن الحال يتكرر بمجرد أن يبتدئ في تناول وجبته! 

الإبداع الحقيقي، والسيرة الذاتية الصادقة تحتاج إلى جُهد مرعب، لا يختلف عن رعب الضفدع المسجون وهو يتأمل ذاته؛ كاتب السيرة الذاتية، أيضا، مسجون داخل ذاته يحاول أن يسترجع حياته بحلوها ومرها، وبالتأكيد تكون المعاناة أصعب لدى الذي ينوي من البداية أن يكون صادقا، فيتعذب مرتين؛ عندما يستعيد الأحداث المؤلمة، وعندما يصفها بدقة دون زيادة أو نقصان، ذلك إن كان لا يريد أن يخفى شيئا أو لا يدّعي شيئا لم يفعله، لأنه باختصار شديد يريد أن يكتب سيرة يحترمها الناس. فكم هي السير التي يتذكرها الناس ويشيرون إليها بالبنان: “هذه سيرة رجل صادق..”؟. 

وصف لنا كاتب من جنوب الولايات المتحدة الأمريكية مواطني مدينته الصناعية الصغيرة، التي لم يكن يقطنها غني ولا شهير، وأنها على الرغم من فقرها، تتضح فيها الفوارق الاجتماعية بدرجة ملحوظة. لقد أخبرنا أن أدنى درجات سلم المدينة الاجتماعي، أو الحضيض مجرد مكان بائس اسمه “جُحر الضفادع” تنظر إليهم بقية طبقات المجتمع بازدراء واضح. 

“بوب مارتن” مجرد سكير بائس، من سكان ذلك الجحر، وهو صامت للغاية، ما لم يحتسِ بضعة كؤوس، يشتريها عندما يبيع بعضا من خيوطه المحملة بالأسماك التي يصطادها من النهر المتدفق نحو البحر. 

(مارتن) لم يكن شيئا يذكر. غير أن ابنته الوحيدة تمكنت من تصدر الناجحين من طلبة مدرسة المدينة، وتحصلت على منحة لتستكمل دراستها في جامعة عاصمة الولاية. وتفوقت وعادت إلى المدينة مؤهلة لإدارة مدرسة القرية. لم يعد “بوب مارتن” ذلك السكير البائس، فلقد احترم مكانة ابنته، التي لم تبخل عليه بقيافة جيدة وأعفته من العمل. 

ذات يوم تضررت أشجار شوارع المدينة بآفة صعب علاجها، فأخبرهم عن سببها وعلاجها، فلقد اكتسب (مارتن) دراية ومعرفة بالأشجار من أيام تسكعه الدائم في الأحراش والغابات المحيطة بالمدينة، وبالفعل تمكنوا من إنقاذها، ولم يطل الأمر حتى كلفته أكبر شركات البلدة برعاية غابتها وبالفعل تمكن من ذلك وذاع صيته كخبير في الأشجار. وأصبح مارتن عضوا فعالا في مجلس المدينة البلدي. 

في المساء يجلس أمام بيته ويتحلق حوله شباب المنطقة ويستشيرونه في شئون حياتهم، وكان مثالا لقائد حقيقي ومفكر لهم، ولم يطل الوقت حتى أصبح جحر الضفادع، أحد أهم أحياء المدينة. هذه الشهرة لم تجعله حكيم حيه فقط، بل المدينة كلها. 

سئل (مارتن) ذات يوم كيف تحققت له هذه الشهرة والقوة والنجاح، أجاب: “لا أعلم.. ولكنني كنت أتعرق كلما نظرت إلى نفسي بعيوني.. نظرت إليها من الداخل وبمفردي، فأحس بذور المعرفة تتفق أمام بصري!”.

مقالات ذات علاقة

نَظَريَّة الإتزانيّة

علي بوخريص

العولمة العميـاء ومُعضلة التخلُّف!

خالد السحاتي

قرقارش ولا شيء غير قرقارش

خالد درويش

اترك تعليق