المقالة

عبدو الطرابلسي… وليبيا الفاسدة!

أغاني النصر والتمجيد تشدو بالانتصار على قوى الظلم، وأغاني الرثاء الحزين تبكي زوال المجتمع القديم زعما بأنه لم يكن سيئا إلى هذا الحد، ولا يعد هذا انحطاطا ثوريا، بل هو رد فعل طبيعي له دلالتُهُ على نجاح الثورة، لأن الحنين إلى المجتمع القديم ينشاُ فقط عند زواله.

الكاتب الصيني لو شون / 1881 – 1936م

 

مامن اللي يزحفْ تحت اللي يمرد.
كنتُ صبيا أرددُ هذه اللازمة دون إدراك من (يمرد) ومن الزاحف تحته، لكن من جعلني أُردد لازمته بل حكمته جعل الليبيين كبارا وصغارا ينتظرون تمثيليتهُ مساءً جالسين عند الراديو حيث يسكتُ الكلام المباح لغير “عبدو الطرابلسي” الحكيم الليبي الشعبي المُخرج والمؤلف لتمثيليتهم المنتظرة، زبدة معاشهم، وخُلاصة الفكر في ذا المعاش.

عبدو الطرابلسي وشخصياته “بوغوفة” و”الحاج”، مثلما “الحاج الزروق” و”الحاجة مدللة” عند الكاتب الصادق النيهوم من ينتظر الليبيون مقالتهُ في العدد الأسبوعي لجريدة الحقيقة كل سبت، و “أضواء على المجتمع” البرنامج الإذاعي للسيدة خديجة الجهمي، كما كاريكاتور محمد الزواوي إعادة صياغة لقصيدة الشاعر الشعبي جعفر الحبوني الأشهر عقد الستينات من القرن الماضي: وين ثروة البترول يا سمسارة*.

لم يكن هؤلاء ولا عبدو الطرابلسي قد تفكر في: ما الهوية؟ ولا انشغل في الطريقة التي يكونها الخطاب بدءاً وكأن المهمة أن نكون أو لا نكون، وأن ذلك يعني أن الإنسان الطالح كما الصالح هما من أبناء البلاد، لم يبدُ له البتة أنهم على غير البشر سلبا أو إيجابا، وبدا له أن البلاد كأي بلاد، لذا انشغل بالمهمة: مواجهة ليبيا الفاسدة من أجل ليبيا الصالحة، وعدَ هذه المهمة مهمته كما مهمة الجيل الصاعد.

وليبيا المُستقلة وقتها، حين عبدو الطرابلسي – وأولئك-في حال النهوض مُثقلة بما بعد الحرب الكبرى الثانية التي طحنت البلاد، ولذلك رأى وهو الرائي أن البلاد المُعاقة يعوقها بنوها الفاسدون والفساد كما تعوقها المسائل الأخرى، وأن ذلكم ليس هوية تخصها، ولا تخصُ كل مرحلة.

عبدو الطرابلسي الفنان – وأولئك زملاؤه ممن ذُكر وممن لم يُذكر- شفافيته لم تجعله هجَّاء للزمان أو المكان، ولا بكَّاء ولا مدبج العويل، كما طبيب جراح أعمل إبداعه في إعادة صياغة الحياة وكتب تمثيلته الإذاعية/ قصيدته لها، ولم يروج للموت ولا كان من زبانية عزرائيل.

لم يكن الفساد مسألة جزئية تُصيب قطاعاً ما، بل إن عبدو الطرابلسي –وزملاءه- شخص المسألة أنها كما الذود عن الحياة ضد المرض والجهل ومن أجل الحرية. ولذا لم يتفصح فكانت عاميته البيان، كسارد لليومي والمأمول ما لا فراق بينهما ولا خلاف. وبذا كان قلب الناس النابض من منحوه القلب كأذن صاغية، شغوفة لشغل عبدو الطرابلسي – ومن ذكرت- من لم يتحذلق ولا أسفَ حين كان يخوض حربه ضد الفساد من أجل البلاد وناس البلاد…

…ليبيا الفاسدة
لقد أدرك أولئك – كما-عبدو الطرابلسي أن ليبيا الفاسدة ليست قدرا ولا خصوصية، وأنه لا يجب الارتكاس عنها، خاصة والبلاد بعد أن صابتها محنة الحرب جاءتها الثروة وبالا، وضربة واحدة على الرأس توجع فما بالك بالاثنتين. وفي الحين شمروا الذهن والفعل: المال السائب يعلم السرقة هذا ما تبين لهم حينها وكل حين، وأن الثروة توقظ الطمع، مُدركين أن الطماعين لا يرتضون بحد ولا حدود وأنهم يأتون من كل فج.

ليبيا الفاسدة ليست مجرد صناعة محلية…
ليبيا الفاسدة ليست عُملة وطنية يقومها السوق المحلي فحسب.
ليبيا الفاسدة تكتسب قوتها مما تملك البلاد
ليبيا الفاسدة أينعت نارها ولاعة بالبترول، (ثم بالسلاح فالحروب)
ليبيا الفاسدة دولة السماسرة.

حينها تحالف السمسار الأجنبي والوطني، ولم ينفك ذلكم حتى الحين، ولن ينفك بسهولة على الأقل. هذا ما أشغل عبدو طرابلسي وأمثاله، ولم يتوسط في ذلك معتبرا التوسط وباء تراخوما صاب عيني البلاد كما “الواسطة” ما كان داء السل، وأن ليبيا الفاسدة من جنيهما. وقد وعى بفطرته وحسه المثقف وحنكته الشعبية أن الفساد مرتع العنف والتطرف، وأنهما سلاحه في نفس الحين، ولهذا اتخذ من التهكم والسخرية السلاح، فكان المتفكه الضحوك في وجه الفساد وعلى الفاسدين، وكشف أن ما خفي كان أعظم: مامن اللي يزحف تحت اللي يمرد.

تلفزيون الوسط
سألني الصديق محمود شمام عما أريد من (تلفزيون الوسط) المزمع انشاؤه؟ وهذا بيان ما أظن أنه: عودة ليبيا إلى مستقبلها، ما يَجبُ الذي يَجِب…

مُلحق
وين ثروة البترول يا سمسارة/ اللي ع الجرايد نسمعوا باخباره/وين ما ريناها/امغير ع الـجرايد نـسمعوا بانبـها/في سويسرا شيد عمار ابــناها/اوحل الـبنا للي هم في الــوزاره/بن حليم والكـعبار لـعبوا فـيها/والـصيد في الخزينة ما ترك لا باره/بطاطـيح وازراعات كـون بـيها/او حـوت البحر في فـيلته يـجاره/والشـعب واعي راه مــوناسيها/امـواله اللي راحن عـليه خـساره/لا بد من يوم الـحساب ايجيها/واللـي خاين الدوله ايبان عــواره/ينـهض شباب الوطن ويصـفيها/من كـمشة لصوص نفوسهم منهاره/اصـغار الوظائف حقها يعـطيها/والعــامل الليبي يرتضى باجـاره/واتـكون العداله كل حد طـاريها/ويبان ضـيها ع الشـعب مايتواره/واتنـور على اللي كان مـولاقيها/ويبشر ابـفرحه زوجـته واصـغاره/او ساعة البطالة في عمل يقضيها/ويروح لـبيته بـاللحم واخـضاره/ويـعلم اولاده علم ويربـــيها/ارباية عصر ينشو رجال عـصاره/او يـرضى الوليه كان واحل فيها/واتقول انت راجل زوجتك مـختاره/انريــدوا عداله هاك فـي باديها/أومـن غير هك ماتنفع اولا خـباره/رنـين الخطب ياما اسمـعنا بيها/اشـجار نم ماذقنا لذيذ اثـــماره/او هاذي قصيده واجبي نـرويها/واكبار الحكومة هم اللي فــساره/ويـن ثروة البــترول والماليه/اللي زايده مــليون فوق الـميه/السـوال مني والــجواب عليه/انهون على نــفسي اللي محتاره/لـنا اطـناشر عــام في حريه/واحنا نــسمعوا بالمال وين تواره/لرقام عالــجرايد مالـهن عديه/ألــوفات مال تلفه اوقل ادبــاره/ما كونت مــشروع له هـميه/أيــفيد البلاد اونفهموا مــقداره/لا عـــندنا اصناعات وطـنيه/اولا عندنا مــنتوج فيه تــجاره/جمـلة بضايعنا اتجي مــشريه/باسعار باهضه منهن الناس سماره/اثنـين الجني للفرد فالــيوميه/ما عاد سادا واجبات اصـــغاره/ناري عـلى اللـي ناقصين مهيه/ناري على الموال والقـــشاره/راحــت عليهم ليل يـا فنديه/الله والنبي ديروا لهم اســتماره/غــلو المــعيشه فالبلاد ازيه/واكبار الحكومة هاملين اضـراره/غنايا اوبــيهاوت واقــطاعيه/هم ع القمم والشعب فالــجراره/التاريخ ما يرحم اصـحاب السيه/او يوم الحـساب اتبان كل غثاره/او يندم اللي عامـل اليوم خطيه/قدام العداله ما يــــفيد انكاره/اردود الجواب صعيب له وحشيه/على كل خائن طــايشات أفكاره/واعر كلامـــي يدمغ الذمـيه/او يعجب اللي مخلص او كامت ناره/اوياقع جميع احسـاب هالقضيه/على كل من حــالف ايمان طهاره/منهم اوحود ايمــانهم سطحيه/ايخونو العهد اويـــعملوا كفاره/يغـويهم ابلـيس ويتبعوا واديه/واللي يتبــعها يقلب جميع أفكاره/الواحد ايقـول اليوم نا شخصيه/انشوف مصلحة نفسي ابكل شطاره/ويشـبك مـع الشركات لجنابيه/ايبيع الــضمير اويشتري المعاره/اتشوف هـيكله مبني كما البتيه/من بـره كبير ومن داخله قعواره/او ياقف وارء المذياع في كرسيه/بـيده أيــخاطب او لابس النظاره/ويـقول نعملوا فاعمال واطـنيه/لـصالح الوطن ونخدموا العماره/بالـعكس يخطب خطبته امغبـيه/عــليشان ما تنظر الناس عواره/وبها الحال كي تنمى الـميزانيه/وبها الحال كي نبوا اركان حضاره/وين ثروة البترول ياسمساره.

قصيدة “البترول” للشاعر جعفر الحبوني نشرت بجريدة “العمل” 1963م.

_______________________

نشر بموقع بوابة الوسط.

مقالات ذات علاقة

ستعلمنا الحرب ..

جمال الزائدي

شجـون لا شواغـل

كميلة بريدان

أحلام ما بعد الحرب (رؤوس وأبجدية الشوارع)

عدنان بشير معيتيق

اترك تعليق