محي الدين فكيني
شخصيات

صورة قلمية للدكتور محي الدين فكيني

محيي الدين فكيني (1925-1994) رئيس وزراء ليبي (من 1963 إلى 1964)
محيي الدين فكيني (1925-1994) رئيس وزراء ليبي (من 1963 إلى 1964)

إذا اردت ان اختار شخصية من شخصيات العهد الملكي يمكن اعتبارها اكثر من ساهموا في انشاء الدولة في الخمسينيات ثقافة، واعلاهم تعليما وتأهيلا، وجدارة، في تلك المرحلة المبكرة من عمر الاستقلال، علاوة على سجل متميز في النزاهة والولاء الوطني، فلن اجد احدا يتفوق على الدكتور محي الدين فكيني، عليه رضوان الله،  الذي باشر العمل في المناصب العامة منذ السنوات الاولى لدولة الاستقلال، فكان ناظرا للعدل في حكومة ولاية طرابلس عام 1954، ثم تولى وزارة العدل في الحكومة الاتحادية، عام 1956،  ثم انتقل الى السلك الديبلوماسي سفيرا لبلاده في القاهرة عام 1957،  وانتقل منذ عام 1958، الى حين تكليفه بتأليف الوزارة عام 1963، سفيرا لليبيا في الولايات المتحدة ومندوبا لها في الهيئة الاممية، وجاء الى المناصب من خلفية نضالية وعلمية، وتأهيل لم يكن متوفرا  لغيره من الناس في بلاده في ذلك الوقت، فوالده هو شيخ مجاهدي الجبل الغربي محمد فكيني،  استقي منه ومن شقيقه الاكبر على فكيني دروس الوطنية، وكان والده احد مثقفي عصره وحاكما من  حكام منطقة الجبل الغربي ابان العهد العثماني، وامتشق السلاح منذ اول  يوم للغزو الايطالي يقود المعارك،  ويتولى تحفيز المواطنين الى الجهاد، وعندما انكسرت شوكة المجاهدين في الغرب الليبي، انتقل الى الجنوب، الى ان اضطر مع عدد من المجاهدين الى قطع الصحراء الليبية تطارهم الطائرات الايطالية بقنابلها وقصفها، وتحرقهم الصحراء بقيظها وتضربهم بعجاجها، حتى وصل في عام 1930، الى تونس بلد المهجر التي استانف فيها نضالا سياسيا لم ينقطع الا بوفاته عام 1950، وكان محي الدين قد ولد اثناء وجود والده في فزان عام 1925 وكان موجودا  اثناء محنة الهجيج عبر الصحراء الى تونس التي هلك فيها المئات  المشاركين في الرحلة، وكتبت له النجاة كما كتبت لوالده الذي كاد يفقد حياته في تلك الرحلة( انظر كتاب المؤرخ الايطالي انجيلو بوكا، على مقربة من المشنقة ـ محمد فكيني والاستعمار الايطالي ملحمة الكفاح المسلح والنضال السياسي، دار ميلالي) وفي تونس باشر محي الدين فكيني تعليمه، وانتقل فيما بعلد  ليواصل مرحلة التعليم الجامعي في باريس، طالبا في السوربون، يدرس الحقوق من الاجازة الى الماجستير الى الدكتوراه، التي نالها عام 1953، في وقت كان المتعلمون في ليبيا يعتبرون الشهادة الابتدائية هي سقف التعليم، وكان صاحبها يتأهل بها ليدخل سلك التعليم، ويصبح بها محاميا وقاضيا ووكيل نيابة بعد اجتياز اختبار صغير.

بهذا الارث النضالي لوالده واسرته، وهذا التعليم الراقي، مرفودا بثقافته الشخصية التي اكتسبها بالمطالعة الحرة  والتحصيل الخاص، وصار عن طريق هذا التحصيل يجيد ثلاث لغات اخرى غير لغته الام، هي الانجليزية والايطالية والفرنسية، علاوة على العربية، ياتي بهذا الزاد الى بلاده ليبيا في عام 1953، ليباشر العمل كواحد من بناة الدولة الجديد، وبدأ بالمساهمة في انشاء الدائرة القانونية في الدولة، ثم ناظرا للعدل في طرابلس، وسافر اثناء هذا العمل في مهام رسمية الى امريكا، والى دول اوروبا ليمثل بلاده في عقد بروتوكولات التعاون والعمل المشترك، وعندما سافر الى الولايات المتحدة الامريكية فيما بعد سفيرا لبلاده وممثلا لها في الامم المتحدة، ومعه  زوجته الشاعرة التي سبق ان اصدرت ديوانا باللغة الفرنسية ابنة السيد منصور بن قدراة، كان ثمة وجه حضاري وصوت وطني وثقافة تتجلي فيها روح العصر، التقى بها المجتمع هناك وهو يرى هذا الرجل وزوجته يمثلان المملكة الليبية المتحدة، وحكى لي المرحوم احمد بن سعود، احد مثقفي ذلك العهد، انه كان موجودا ذات يوم مع الدكتور محي الدين فكيني في جلسة للجمعية العامة للامم المتحدة، كانت تعقد بصورة طارئة وتستمر الى ساعات متأخرة من الليل تناقش قضية تتصل بالشرق الاوسط وقناة السويس، وكان الدكتور فكيني يرغم نفسه على الحضور رغم وجود الم طاريء في احدى عضلات الكتف تجعله يأخذ حبة لتسكين الالم كل نصف ساعة،  وعندما احتدم النقاش، راي ان يطلب الكلمة، وسأل الاستاذ احمد الذي كان اصغر سنا منه، ان يذهب الى سكرتيرية المؤتمر لوضع اسمه ضمن المتكلمين، الا انه كما اخبرني ذهب فعلا لكنه لم يخبرهم برغبة الدكتور فكيني في الكلام وانما تظاهر بذلك، وسال سؤالا عن موعد الاستراحة، لانه لم يكن يثق ان الدكتور عندما يصل دوره في الكلام، سيكون بكامل وعيه، مع تناوله المستمر للمسكن وله تاثير مخدر، بدا يرى أثاره تظهر علي زميله، ومضى الوقت دون ان يسمع الدكتور فكيني أسمه، فادرك ان زميله لم يكن صاقا  في وضع اسمه على جدول المتكلمين، فذهب بنفسه وهو يستند على المقاعد بسبب تاثير المسكن، وطلب الكلمة، وبعد فترة  تناول فيها مزيدا من الحبوب المسكنة، جاء دوره في الكلام، فنهض وذهب يجر اقدامه جرا، من فرط الانهاك وتاثير المخدر، وقال الاستاذ احمد بن سعود، انه غرق في مقعده يريد ان يختفي خجلا وخوفا من الفضيحة، لانه لم يكن يثق ان الدكتور فكيني يسيطر سيطرة كاملة على ملكاته العقلية، وكانت القاعدة، كالعادة في الجلسات الطويلة التي تعقد لظرف طاريء، يرتفع فيها الضجيج ويتحدث الناس في القاعة مع بعضهم البعض، لانهم ضجروا من الانصات للمنصة، وقف الدكتور فكيني مستندا على المنصة لالقاء خطبته، مستخدما اللغة الفرنسية التي كانت لغة رسمية للتخاطب من فوق هذا المنبر، وباشر الكلام بادئا بكلمتي مدام مسيو، وانطلق بصوته الجهوري يحلل ابعاد الازمة، وشاهد السيد احمد بن سعود، كيف استطاع بقوة ادائه وببلاغة كلامه وبجهورية صوته، ان يسطر سيطرة كاملة على تلك الصالة، فاختفى فجأة الضجيج، وانتبه الجميع اليه ينصتون الى ما يقول، وكأن على رؤوسهم الطير، كما يقول التعبير الشهير، واحس السيد احمد بن سعود بالزهو والفخر فصار يرفع جسمه من المكان المتدني في الكرسي، ويرفع راسه زهوا وفرحا، يدير راسه في القاعة  ويرى الانبهار بما يقوله الدكتور فكيني الذي القى في ذلك اليوم وتلك المناسبة ابلغ خطاب شهدته الجمعية العامة في تلك الدورة، وما ان انتهى من خطابه وهبط من المنصة، حتى هرع اليه مندوبو الدول العربية يحتضنونه بحماس ويهنئونه بقوة حجته وعظيم كلامه حول قضية العرب الاولى فلسطين، وقال لي ان كثيرا من المتحمسين لتلك المداخلة، صنعوا منها شريطا صاروا يوزعونه على مجتمع الامم المتحدة واعضاء الوفود وينتقلون به  الى الاعلام وكان العرب ياتون الى مقر البعثة الليبية والى السفارة يطلبون نسخة منه.

وعلمت انه اثناء وجوده سفيرا في امريكا، لبى دعوة اغلب الجامعات في مختلف الولايات  الامريكية، لالقاء محاضرات فيها للتعريف ببلاده وتاريخها واسهامها في الحضارة الانسانية ونضالها في سبيل الحصول على حريتها.

استدعاه الملك ادريس من هذه السفارة في امريكا،  ليؤلف الوزارة التي اعقبت وزارة السيد محمد عثمان الصيد، والتي فور تشكيلها اكملت اجراء كان قد باشرته حكومة الصيد بانهاء الشكل الفدرالي، واخذ موافقة مجلس النواب، ومجلس الشيوخ، على التعديل الدستوري، بدمج الولايات الثلاث في كيان واحد، كما تضمن التعديل مادة اخرى غير شكل الدولة، تخص بانصاف المرأة ومنحها حق الانتخاب، وكانت ليبيا احدى الدول الاولى في القارة الافريقية التي حققت لنسائها هذا المكسب، كما حصل قبل ذلك في مصر وتونس  ومع المملكة المغربية في نفس العام، ورغم انه لم يكمل في هذا المنصب عاما كاملا فقد انجز عملا على طريق مكافحة الفساد، هو انه احال التعاقدات لاختصاص مجلس الوزراء بعد ان كان اختصاصا لاهل الحظوة من اصحاب المناصب الرفيعة، مما جعل اهل الفساد يتحالفون ضده، وكان قد اوقف بعض المخصصات التي تمنح لاصحاب مناصب بعينها باعتبارها بندا سياسيا يصرف دون حسيب ولا رقيب، فانضم هؤلاء ايضا للتحالف المعادي، وانتهزوا فرصة غيابه لحضور مؤتمر القمة الذي عقد في مطلع عام 63 في الاسكندرية، صحبة ولي العهد، واثاروا الفوضى في البلاد، لان هناك طلابا خرجوا في مظاهرات لمناصرة احدى القضايا القومية، فواجهوا هذه المظاهرات بالرصاص، وسقط عدد من الضحايا، فعاد رئيس الوزراء مسرعا الى البلاد، وانشأ لجان تحقيق لمعرفة المتسببين في ازهاق الارواح، الا ان احد المدانين في العملية كان قياديا كبيرا في الامن، هو المرحوم محمود ابو قويطين، الذي يحظى بمكانة خاصة لدى الملك، فلم يجد استجابة لطلبه بمحاسبته وعزله،  فقدم استقالته مسببة الى الملك، واعتذر عن مواصلة العمل في منصبه الرفيع، لانه كان رجلا يحترم نفسه، وترك منذ ذلك اليوم العمل مع الملك، ولم يعد لتقلد اي منصب رسمي الى حين الاطاحة بالنظام الملكي في عام 69.

أكد لي الاستاذ سيف النصر عبد الجليل، اطال الله عمره، انه كان ضمن مجموعة من رجال الدولة في العهد الملكي، بينهم الدكتور محي الدين فكيني، على اتصال بالنبض القومي في الشارع الليبي، وبعلم الملك الذي لم يكن يعترض على اتصالهم مع زعماء فلسطين ومع الرئيس جمال عبد الناصر، الذي كان كما قال لي، يحمل تقديرا وتوقيرا للدكتور محي الدين فكيني، وكان على معرفة شخصية وثيقة به منذ ان كان سفيرا لليبيا في مصر عام 57. واثنى على قوة الوازع الوطني لديه، ويقظة الضمير، وحرصه على الامانة والنزاهة والصدق فيما يفعل وفيما يقول، كل من من كتب عن ذلك العهد او تناول حكوماته وشخصياته، فهناك اجماع على السجل النقي والنظيف للدكتور محي الدين فكيني، وهي شهادة لم يبخل بها حتى عدد من المنافسين له  على منصب رئيس الوزراء مثل السيد مصطفى بن حليم، في مذكراته.

عندما قام انقلاب سبتمبر 69، كان الدكتور فكيني خارج الوطن،  في زيارة الى احدى الدول الاوروبية، وكانت انظار الناس تتجه اليه باعتباره شخصية وطنية ذات خبرة وتجربة، وتاريخ وطني، اوصله الى التناقض مع العهد الملكي وفك الارتباط به، وباعتبار القائمين بالانقلاب، شباب صغار في السن وفي الرتب العسكرية ولا خبرة ولا تجربة لهم، وامامهم شخص من اكثر اهل الحراك السياسي الوطني  خبرة وكفاءة في كل ليبيا، فلا مناص اذا كانوا صادقين في بناء الدولة، من الاستعانة به في هدا البناء، فرئيسهم نفسه كان في ادني رتبة في السلم العسكري للضباط وهي  رتبة الملازم ثاني، وسوف يجد في هذا الرجل الدعم والسند، وكان هذا تفكير كثير من الناس وامنيتهم الى حد انهم كانوا يبحثون عن عنوان الدكتور فكيني في الدولة الاجنبية التي سافر اليها، ويقدمه اليهم لكي يتواصلوا معه ويتولوا دعوته الى العمل.

وكانت الايام تمر دون اتصال به، حتى صارت شيئا فشيئا تظهر الطبيعة الاقصائية للنظام الانقلابي، ورغم ان اهل الانقلاب استعانوا في البداية جدا ببعض الشباب الوطني وبعض الضباط الاكبر رتبة، لكنهم بعد ثلاثة اشهر فقط تخلصوا من الجميع بحجة وجود مؤامرة، وكانوا قبل ذلك قد عزلوا كل القيادات ليس فقط السياسية ولكن الادارية، لم يكتفوا بالوزراء ولكن الوكلاء وهم اداريون وايضا مدراء الادارات، وكل قيادات الامن والجيش والمؤسسات الاقتصادية والتعليمية، واتضح انه لم يكن ممكنا الاستعانة برجل له خبرة وكفاءة وقدرات محي الدين فكيني لانه سيفضح بظهوره، رجلا مثل رئيس الانقلاب، بمستواه المتدني، الذي يقدم نفسه باعتباره المفكر العبقري الذي لا وجود لمثله في التاريخ البشري.

وظل يعيش في طرابلس، يتردد على المكتب القانوني الذي كان قد افتتحه منذ ايام العهد الملكي، ولكنه كان يعاني من الجفاء والمحاصرة، ويمارس حياته العملية اشبه بالمتقاعدين لان الشركات والمؤسسات كانت تخشى استخدام مكتبه خوفا من الحكومة التي تتخذ موقفا عدائيا من كل قيادات النظام الملكي.  ولانه من عائلة في الرجبان ذات يسر وصاحبة املاك صادرها الايطاليون، واعادوا بعضها الى الاسرة عقب خروجهم من ليبيا، فقد اتخذ لنفسه مسكنا داخل مزرعة يملكها في منطقة سيدي المصري، قريبا من طرابلس، وكان كلما احتاج الى مبلغ من المال يغطي مصاريفه واحتياج اسرته، حصل عليه، عن طريق بيع جزء من المزرعة، وكان هذا مصدره للدخل خلال  مدة ربع قرن عاشها بعد حدوث الانقلاب.

اسعدني الحظ بان اتعرف على الدكتور محي الدين فكيني، واقترب منه، واستمتع بالحوار معه، خلال الخمسة عشر عاما الاخيرة من حياته، اذ حدث في مطلع الثمانينيات ان كنت اتخذت من الفندق الكبير مكانا للقاء الاصدقاء، وكنت ذات يوم جالسا مع الصديق الكبير الاستاذ على مصطفى المصراتي، اطال الله عمره، نحتسي القهوة، عندما دخل الدكتور فكيني، يبحث عن مكان يجلس فيه، وما ان رآه الاستاذ المصراتي، حتى نهض يحييه، ويرحب به ويدعوه للجلوس معنا، فجاء وجلس وحصل التعارف بيني وبينه لاول مرة، وعندما عاد بعد ذلك الى الفندق، وجدني جالسا دون ان يكون الاستاذ المصراتي موجودا، فاتجه لتحيتي، وصار هذا اللقاء يتكرر، ولا ينقطع الا عندما يكون هو او اكون انا على سفر،  وعبر هذه الجلسات والحوارات التي كانت ذات طابع ثقافي، أؤكد انني التقيت بعقل من انبه وارقي ما صادفت في حياتي من عقول، عبر عمر قضيته في صحبة اهل النبوغ والعبقرية، عربا واجانب، شرقا وغربا، فقد اجتمع فيه التعليم في ارقى مراتبه، مع الثقافة العميقة القوية الموسوعية التي اكتسبها عبر المطالعة والحوار والتعامل مع اهل الفكر والسياسة وباربع لغات يجيدها اجادته للغته الام، ثم التجربة العريضة الواسعة، عبر تعامله مع معطيات وظروف حياته منذ ولادته في عمق الجنوب الليبي، الى التجارب المريرة التي عايشها مع اسرته، والخبرات التي اكتسبها عبر مسيرة حياته الحافلة بالسفر والاحداث، واستأذنته اثناء تلك اللقاءات في تنظيم مجموعة محاضرات  في رابطة الادباء والكتاب التي استلمت امانتها لبعض الوقت في تلك الايام، ولكنه كان مدركا لحدود ما يسمح به النظام، فافهمني انه مرتاح لوجوده في بلاده، ملازما للظل يسيرجنب الحائط، ورغم قولي له انني استطيع ان احصل على اذن باستضافته من الجهة المسئولة في الدولة، الا انه لم يكن يريد اثارة اي نوع من الانتباه له من جانب السلطات، فهو سعيد بانهم تناسوه، وهو يبادلهم نسيانا بنسيان، ولم اعد لفتح هذا الموضوع، او اعادته مثل هذا العرض عليه،، منعا لاي احراج، واقتنعت بالمنطق الذي قاله بعد ان لمست خلال تواصلي معه، انه لم يكن يحمل اية مرارة، ولا تنطوي نفسه على اية ضغينة ضد احد، وانما نفس رضية، مطمئنة لما حققته من سلام مع نفسها و تصالح مع العالم الذي حولها، وثمة في موقفه عرق ذهبي يتالق باشعاعه من الزهد والتصوف، الذي يضفي على ملامحه سمت رجل من اهل الولاية، لا تملك الا  ان تحبه في الله وتشعر مشاعر الرضاء والهناء وانت تجلس بجواره، واذا كان هناك حرقة فهي ليست في نفسه اطلاقا، وانما في نفسي، قائلا لها، لماذا تضيع بلادنا فرصة استثمار كفاءة وملكات هذا الرجل في بناء نهضتها وتحقيق التقدم الذي ينشده شعبها.

افادتني اقامتي الطويلة في العاصمة البريطانية، بالتعرف على مكتبة مدرسة الدراسات الشرقية والافريقية التابعة لجامعة لندن، وما كان يهمني فيها هو ركن في المكتبة يضم عددا كبيرا من الدواليب، مخصص فقط للكتب التي تتناول ليبيا، عشرات الارفف ترتص فوقها مئات الكتب ربما تزيد على الالف كتاب، اغلبها باللغة الانجليزية، لا ادعي انني قراتها جميعا، ولكنني لم اترك كتابا من تلك التي تتحدث عن التاريخ او الرحلات الى ليبيا او السياسة او الفكر والادب والفن والثقافة لم اقلبه، واقرأ بعض صفحاته، واعرف شيئا عن موضوعه ومحتواه، وفي احاديثي مع الدكتور محي الدين فكيني، كان يأتي ذكر هذه الكتب، واقول صادقا انني لم اقابل مثقفا ولا كاتبا ولا عالما في ليبيا يعرف هذه الكتب كما يعرفها هذا الرجل، لانني لا اكاد اذكر كتابا الا بادر لاكمال الاسم وذكر المؤلف، واغلبها كتب كانت قد كتبت ابان مولد دولة ليبيا والسنوات التي اعقبت ميلادها، فكان يتخذه مؤلفو هذه الكتب مرجعا، يذهبون اليه ويستقون ما ينقصهم من معلومات منه، ويرجعون اليه في التأكد منها، كما ذكر لي هو نفسه، وانه كان في محاضراته عن ليبيا يستخدم بعضها مراجع لتلك المحاضرات، فكنت مندهشا، انه لا يعرف فقط الكتاب ولكنه خبير بظروف كتابته وكيف تمت ولادة فكرة الكتاب، وماذا كان المؤلف يعمل او الدوافع التي دفعته لتاليفه، وذكر لي الاتصالات التي حصلت بينه وبين بعض مؤلفي هذه الكتب، معلومات زادتني انبهارا واعجابا لهذه الشخصية الاستثنائية، وكان اي حديث عن التاريخ وعن الماضي يجتذبه ويستفيض في البوح والكلام حوله، وكنت افهم تحفظاته السياسية وعدم تناول الاوضاع الراهنة في البلاد، لانه لم يكن يريد قول اي كلام يثير حفيظة النظام ضده، واعتقد ان هذا التحفظ انسحب على اي نشاط فكري يقوم به، فهو مثلا رحل عام 1994( عن سبعين عاما) دون ان يترك اثرا فكريا اواكتابا يسجل فيه افكاره وهو قادر على انتاج الفكر، او كتابا عن تاريخ وجهاد والده، ومعاناته وتاريخ نشاطه في المهجر هو ورفاقه ومريديه، وفوق هذا وذاك كيف بقى لمدة اكثر من ربع قرن يعاني تقاعدا اجباريا دون ان يفكر في كتابة مذكراته، ورصد فصول من حياته العامرة بالمناشط والفعاليات، ولقاء كبار الشخصيات من صناع التاريخ، وبجاوره رفيقة حياته، اديبة وشاعرة، وابنة بيت من اهل العلم والجهاد، كان يمكن هي الاخرى ان تكون  عونا له على انجاز هذه المذكرات او هذه التآليف التاريخية.

غادر الدكتور محي الدين فكيني هذه الحياة الدنيا، دون ان يترك اثرا فكريا سواء في التاريخ او في التراجم والسيرة الذاتية، وانما ترك ذكرا حسنا، وهو كما يقول شاعر العرب الاول، ابو الطيب المتنبي: (فارفع لنفسك قبل موتك ذكرها … فالذكر للانسان عمر ثان)… رحم الله السياسي الليبي البارز الدكتور محي الدين فكيني، واكرم مثواه واجزل له العطاء في دار البقاء، بقدر ما اعطى وقدم في دار الفناء.

_______________

نشر بموقع ليبيا المستقبل

مقالات ذات علاقة

النجمُ الذي أفل

يونس شعبان الفنادي

كل يوم شخصية ليبية مشرقة (19).. الشاعر علي صدقي عبد القادر

حسين بن مادي

بهيجة المشيرقى.. احدى “ايقونات” الثورة الجزائرية

المشرف العام

اترك تعليق