المقالة

شجون وزفرات :: سقوط الحائط الرابع بين مسرح الفرجة ومسرح الحياة

عزالدين عبدالكريم

الصورة من ذات المسرحية لكنها ليست من ذات المسرح ويظهر فيها:
لطفيه إبراهيم / عزالدين عبدالكريم / نورية العرفية / مصطفى المصراتي.

 

قبل أن ابدأ ، سأنتهي ….. وأجيب على ما قد يدور بخِلد البعض عند انتهاء السطور ، وأقول:

لقد ولىَّ عهد الزعامات ، والحركات الوطنية التي كانت تُحدث أثراً عندما كان العدو ليس جباناً ومستعداً للمواجهة المباشرة ، وعندما كانت المواجهات فيها شئٌ ( ما ) من الشرف والأخلاق …. وعليه فلننسى المقارنات تأسيساً على ماضٍ غابت معطياته في هذا الزمن وتبدلت فيه الأساليب والوسائل .

الآن … لنترك الشجون والزفرات تنطلق ، على أمل أن تجد رجع صدى في النفوس …

في سنين الشباب الأولى ، كان مما استهواني من أنشطة … ” المسرح ” … ذلك المخصص للفُرجة ، والذي وُصف بأستاذ الشعوب ، وفي السبعينات تقرر أن تقوم فرقتي ” المسرح الحر ” بإنتاج مسرحية لغرض المشاركة بها في مهرجان المسرح الوطني ، ووقع اختيار المخرج الأستاذ سليمان المبروك على مسرحية ” مغامرة رأس المملوك جابر ” للكاتب الكبير الأستاذ سعدالله ونوس ….

وتماشياً مع النص و مدخل المسرحية ، قرر المخرج أن يلغي غلق ستارة المسرح ، بحيث يرى المتفرجون الخشبة بما يمكن أن يكون عليها من مناظر – إن وجدت – ، وهو ما يسمى في الفن المسرحي ، بكسر الحائط الرابع ، بوصف أن الستارة تشكل الحاجز بين الخشبة والجمهور ، وباعتماد هكذا أساليب فإن الفكرة المستهدفة تكمن في إشراك الجمهور في أحداث المسرحية ، ليصبح المتفرجون جزءًا من عناصر الفعل والأحداث ….

المسرحية تبدأ على أن المكان عبارة عن مقهى تقليدي ، يعمل به راوي ، يقوم بسرد قصصه على الجمهور ، ولذلك عمدنا على أن يكون صوت إحدى الأغاني القديمة طاغياً ، ليصبح البراح كله في اتحاد بين الخشبة والجمهور ، درجة أنني أتذكر الأستاذ الكاتب الكبير علي مصطفى المصراتي وهو يدخل المسرح بصفته وقتها رئيساً للجنة التحكيم ، قد أثاره وضع بعض هرج المتفرجين الذين يسعون لأخذ أماكنهم ، مع الخشبة المفتوحة ، وصوت الأغاني ، حتى أنه تهكم بلهجته المحببة بالقول :

إيه إحنا داخلين قهوة ؟؟؟؟

لم يدري وقتها أن ذلك الإحساس الغريب الذي تملكه ، كان مستهدفاً ، وأسعدنا جميعاً استنكاره المغلف باستفهام .

في مشاهد المسرحية الأولى وبعد أن يقدم الراوي ، الذي كان يأخذ جانباً خارج الخشبة من افتتاح حكايته في سطور قليلة ، يتوالى تجسيد الأحداث عبرنا نحن ، ودون التطرق لتفاصيل اسماء كل المشاركين ، كان عليَّ أن أبدأ الحوار مع العزيزتين لطفيه إبراهيم ونوريه العرفية مع مصطفى المصراتي والأخ وليد ” مع حفظ الألقاب ” كنا نقوم بأداء أدوارنا وفق نص كتبه ” سعد الله ونوس ” وحركة حددها المخرج ” سليمان المبروك ” ، وسار كل شئٍ بسلام ، إلى أن خرجنا عن النص بصمت غير مبرر بسبب حدثٍ غير متوقع !!! إذ باشر المنظر الذي نقف أمامه بالسقوط ، ولأن وليد كان متأخراً في الدخول تمكن من الإمساك بالمنظر من الخلف دافعاً إياه تجاهنا ، ولأن الراوي أنهى حواره وكان علىّ أن ابدأ فقد تجمد كل شئ ، وبما أن العزيزة لطفيه بجانبي ، كانت تولول بصوت خافت حتى لا يسمعها الجمهور :

تي هيا يا عزالدين ابدأ …

ولأجيبها: ما نقدرش نبدأ حتى يخش وليد ، وعباراتنا قصيرة جداً … ويزداد امتعاض لطفيه لتقرب وجهها من المنظر وتقول :

تي هيا يا وليد خش النهار الاحرف …
ويرد وليد ، المنظر بيطيح
وأنا متمسك بموقفي في عدم البداية رغم تسليط الإضاءة علينا ، لأن سعد الله ونوس كتب المشهد بجمل غاية في القصر ، ولطفيه مجبرة على أن تتكلم بعدي مباشرة … وفي النهاية دخل وليد وعندها باشرت الحوار ….

كنا جميعنا نمثل أدوارنا ، لأغراض سامية مستثمرين ” أستاذ الشعوب ” مسقطين عناصر الفجوة بيننا وبين الجمهور الذي استمتع ، وتلقى دروساً مستفادة سطرها كاتب كبير بحجم سعد الله ونوس …

بعيداً عن الفرجة التي كانت غايتها ، التثقيف والتوعية والتحريض أحياناً ، ففي واقع الحال الذي كان معاشاً في أحقاب مضت ، وفيما يطلق عليها بالتفاعلات السياسية والتاريخية ، كانت الأمور تترتب تحت عناوين محددة ، ليتم لملمة الأحداث التاريخية في مسرح الحياة الفعلية ، دون أن يكون مفتوحاً على الجمهور بالضرورة ، وكانت النتائج تعلن على حين غرة ، أو في أفضل الأحوال كتطور لسلسة من التحركات ، ولم يكن الجمهور مطالب بأن يكون طرفاً بل متفرجاً .

اليوم في ما نعيشه تم اسقاط الحائط الرابع ، وإشراك الجمهور في مسرحية طالت سنيناً ، ولم يتم الاكتفاء بوضع الجمهور في وضع المتفرج ، بل أصبح عنصراً رئيسياً يتلخص دوره في أن يكون الضحية يتأرجح بين الغبن والقهر وضيق ذات اليد والمرض ليصل عدد منه مهول إلى موتى ، في مسرحية شارك في كتابتها أطراف لا نراهم ، وأخرجها أطراف آخرون تارة بالتبادل وتارة مجتمعون ، مع مساعدي مخرجين وفنيي مكملات مسرحية في وظائف محترمة ومرموقة فيما يطلق عليها دولة …. ويبقى الممثلون مؤدون لأدوار حقيقية على أرض واقع مرير وهم غاية في الضحالة وانعدام الحس مع تجرد كامل لأي رابط إنساني وسيصبح الحديث عن الوطنية معهم من باب الخبال .

الفرق بين مسرح الفرجه ، أننا على زمننا لا نتلبس الحالة ، ولا تقترب منا الشيزوفرينيا لتتملكنا شخصيات حددها آخرون ، وينتهي بنا المطاف عند إزالة المكياج و خلع الملابس ، لنعود الى بيوتنا منتعشين بما قدمنا من خدمة للجمهور .

في حين أن ممثلي اليوم على أرض الواقع يتملكهم الخلل العقلي والنفسي حتى قبل توزيع الأدوار التي تلبسوها و الأنكى صدقوها ، ولا يريدون بأي حال العودة الى طبائعهم ، تلك التي كانوا عليها قبل الانغماس في المسرحية المزرية .

الخروج عن النص عندهم مباح ولن يرتعبون منه مثلنا ، طالما أن خروجهم لا يلامس دائرة استفاقة الضمير ، وطالما هو كذلك فإن المؤلفين لن يعترضوا وكذلك المخرجين ، بل قد يعتبرونه إحدى علامات الإبداع المشجعة على التمسك بهم .

أكاد لا أستثني أحداً من الأسماء الفاعلة من الحالة ، ويكاد اليقين يتملكني بأن ما من أحد في هذه الظروف يسعى ( جاهداً ) لأن يكون له دور مستقبلي في حكم البلاد إلا والبراءة غائبة عنهم ، والأقرب لتحليل الشخصيات أنها تعكس نوايا غاية في السوء و تعبر عن مخططاتهم التي هي بعكس ما تخفيه ما يصرحون به من أقوال تضعهم في صف الأنبياء والصديقين .

كاتبوا المسرحيات ومخرجوها يمتلكون الخشبه – هكذا قُدِّر – لأن العالم متشكل على نحو لا يمكن نكرانه ، ولا يجدون أدنى صعوبة في إيجاد رعاع بدرجات مختلفة وتوجهات متنوعة وبشهادات علمية مختلفة في أن يمثلون الأدوار ، بعضهم مريض وبعضهم متطلع لتبوأ مواقع لم تكن في قائمة أحلامهم ، وهذا يحقق أن لا رابط بين النقائض ولتظهر الأمور بمنطقية يُراد لها أن تكون كذلك ، لكن المختلف أن كتاب المسرحيات يكتبون التفاصيل على أساس المستجدات اليومية ، ويمكنهم تغيير الممثلين في أي لحظة وبطرق سيكون أخفها التأطير الأبدي بالعمالة والخيانة بعيداً عن البلاد ، ولا تقف عند إنهاء الوجود من الحياة مع سلسلة من الفضائح ….

اسقاط الحائط الرابع في زمننا المعاش جعلنا نحن الجمهور رغماً عنا ، نعيش مآسي متنوعة ، وليتهم بقوا على حالهم في عدم اشراكنا ، فمشاركاتنا ليست فاعلة ولن تكون ، ولا تُحدث أثراً ، لأننا قطعان نحتاج الى راعٍ ، و في ذاتنا غير متفقين على شئ ، ومخدوعون بالكثيرين … وتتقاذفنا أكاذيب الدول ” الراقية ” الحريصة على الإنسان فرادى وجماعات ، مع ما يجمعها من بيت كصالة الأفراح يسمى ” الأمم المتحدة ” …
ويبقى الرهان باقٍ على نعمة من الله في أن يصحو الضمير أو يصدر العلي القدير حكمه

ولا حول ولا قوة إلا بالله …

21 / 9 / 2018

________________________________________________________

ملاحظة : الصورة من ذات المسرحية لكنها ليست من ذات المسرح ويظهر فيها : لطفيه إبراهيم / عزالدين عبدالكريم / نورية العرفية / مصطفى المصراتي

مقالات ذات علاقة

الـــكــــرة

إبراهيم الكوني

“التليسي” لم يترك لوحته.. ورفع لنا تاريخنا

زكريا العنقودي

المثقف و المبدع

رامز رمضان النويصري

اترك تعليق