قصة

سيتي ستارز 1

التشكيلية الفلسطينية _ كنان الربيعي

سوق كبير يرتاده الكثير من الليبيين من أُطلق عليهم أزلام وطحالب وكذلك البعض من الثوار الجرحى وبعض الأسر التي أرادت الترفيه عن نفسها بعد حرب التحرير وعدد وافر من الذين هربوا إلى القاهرة لشعورهم بالخطر هناك، تجر خطواتها الخجولة على الرخام اللامع في ردهات مبنى السوق الكبير لمحت مسحة الحزن في عينيها واصطنعت ابتسامة قابلتها بها فاتجهت نحو طاولتي في المقهى تقترب مني ملوحة بيدها اليمنى حيث اليسرى تمسك بطفلة تجاوزت الخامسة من عمرها .

قمت وهي تمد يدها تصافحني وتسألني ..

• الأخ ليبي ؟

هززتُ رأسي أن نعم وبيدي أشير لها بأن تقعد لتحتسي شرابا ما لها ولصغيرتها وهي تقعد تمتمت بكلمات الشكر.

• صحيت يا وخي من بكري وأني اندور في حد نتكلم معاه قلبي مضايق والحالة زي ما أنت عارف.

لم تكن الأولى التي قابلتها وجالستني في مكان عام تلقي علىّ حِملها وتبوح بما في صدرها ومنهن من تكشف عن هويتهن وأخريات يكتفين بطرح ما لديهن تبدي تدمرها وتظهر سخطها على وضعها المعيشي في قاهرة المعز التي التجأت إليها هاربة ممن جرى .

هن يتشابهن في طريقة الخروج من ليبيا ويتباين في ظروفهن والواحدة منهن تسرد عليك قصتها الدرامية وأنت لست متشفيا ولست شامتا لكنك فرح بثورة فرضت نفسها على العالم وانتصرت لشعبها دون النظر إلى ما يحدث من فرقة واقتتال بين أفراد العائلة الواحدة..

جاء النادل وطلبت شراب الليمون لها وقطعة حلوى لصغيرتها.

• شنو اسماها بنتك ماشا الله عليها قنينة زي القمر ؟

• عائدة اسماها عائدة وبوها هو اللي سماها.

• وانت شنو اسماك؟

• انتصار وبوي الله يرحمه سماني انتصار وهو يحارب في تشاد واني في بطن أمي .

وهي تخفض رأسها تغالب دمعها أضافت:

• مات وما شافنيش ولا أني شبحته قاولو لأمي مات وخلاص .

علي يدي وعلى مرمى بصري شاهدتُ الكثير ممن قٌتلوا في الحرب المفتعلة هناك وقد عانيت بعد عودتي كثيرا من هواجس وكوابيس جعلتني ألتجئ إلى الأضرحة وبعض الصالحين أعلق التمائم وأحرق البخور واذبح القرابين وأتصدق عل الفقراء,أصلي لله حمدا وشكرا حتى تجاوزت أزمتي دون أن يغادرني شبح الموت وإحساس من يموت برصاصة وسط لعله السلاح وصيحات المتحاربين في العراء غريبا يدس في قلبه ألاف الأحلام.

لأصرف تفكيرها أشرت لها إلى أحد عناصر الفساد الكبار وحيدا يحتسي القهوة وينفث دخانة السجائر سألتها .

• تعرفيه ؟؟

• من اللي مايعرفاش يعطيه دعوة ترفعه لجهنم دار في الناس هلبه ، يلقاه في صحته وفي صغاره

ولتعود إلى الحديث عن نفسها سألتني.

• انت من وين

• اني ليبي من الساحل .

• وشنو ادير هني .

• جاي باش نرفع بضاعة لليبيا عشان شهر رمضان عصاير وألبان ودلاع ومانجا وشمام .

كذبت عليها زعمتُ أنني في مهمة عمل سأنتهي منها بعد يوميين فصدقني وتدعو لي بالتوفيق

سألتها

• انت مع الأسرة ؟

• لا . أني بروحي.

• أوين راجلك

• مات في الثورة وخلاني انعاني.

ساد صمت بيننا لستُ ادري كيف أشقه حتى أنني لم أترحم عليه أو أحوقل ولم يقطعه إلا النادل وهو يقترح لنا طلبا آخر فسألتها.

• تبي تزيدي تشربي حاجة ثانية

لا صحيت يا وخي ربي يزيد فضلك ويعطيك من عنده.

• نظرتُ إلى شاشة الهاتف لأتبن الوقت فوجدته قد تجاوز الخامسة بعد الزوال فناديت النادل أعطيه ثمن طلبنا منه وأنا اقومن من مكاني أشرت لها بالنهوض أقول لها .

• توا وقت غدي واني جعان يالا نمش ناكل حاجة في المطعم ونكمل كلامنا .

لم تمانع وأتجهنا إلى المطعم نطلب ما يقتل الجوع فينا ونحن ننتهي منه انكفينا إلى مقهى آخر .

• وين ساكنة ومع من ؟ .

• في الجبانة زي الغلابة المصريين.

• صعقني ردها

• وعلاش في الجبانة؟

سألتها وقد أدركتُ سذاجة سؤالي .

• افلوس كملوا مني وصاحب الشقة لزني ومالقيتش غير المقبرة مع واحدة مصرية ساكنة في الحوش .

بسذاجة أيضا أقترحت عليها ..

• طيب ممكن تروحي لبلادك وترجعي لحوشك .

ضحكت وهي تجيب.

• لمنو بنروح الراجل ومات،والشقة وحرقوها ،وأهلي رافضيني وخليها في سرك .

أجهشت بالبكاء ووحدها الدموع القريبة منها تفضح شدة بؤسها.

فجأة قامت بحجة ذهابها إلى دورة المياه مع صغيرتها ولم تعد طوال مدة انتظاري وأنا أخمن سبب عدم عودتها لي ،فقد عزمت على مساعدتها ولستُ أدري كيف، فهي ليبية ومن حقها أن تعيش حرة وكريمة ولن تحمل وزر غيرها .

أترددتُ على السوق الفاخر مدة طويلة لعلي ألتقي بها ثانية وأمد لها يد المساعدة فإن كانت لا تستحقه فمن أجل الصغيرة التي لا ذنب لها أفتش عنا بين زحام القاهرة وعن تقاطعات الطرق وفي المقابر القريبة من المكان وهي كثيرة ،فما عثرتُ عليها .

بعد شهر كامل وأنا أفكر في حالتها حتى كاد اليأس يتمكن مني وجدتها صدفة في الشارع العام تمسك يسراها عقود الياسمين بحجة بيعها لتنال حسنات المحسنين بما يجودون به ويمناها يد صغيرتها عائدة لتعود آخر المساء ببعض من الجنيهات ، وسيلا من تعليقات سفهاء القوم وحزمة من النظرات الشبقة الطامعة في جسدها الخيزراني .

ناديتها …..

• انتصار….

التفتت لي يشع وحهها ببريق جميل تندفع نحوي كأن شبحا يطاردها أوهي في تشرف على الغرق في بحر هائج وأنا طوق النجاة تندفع نحوي ،غير أن سيارة مسرعة لم تنتبه إليها ولم ينتبه سائقها صدمتها لتلقي بها بعيدا ترتمي على الإسفلت جثة هامدة تلفظ أنفاسها الأخيرة وأنا اترك سيارتي مهرولا اتجه إليها أضمها وسط حلقة من الناس وصوت المحولقين بأسف أرفعها من على الأرض وأضع رأسها بين يدي في آخر رمق تنظر إلى عيني هاتفة باسم صغيرتها

• عائدة يا يا وخي ع ا ئ دة.

ووجدتني أصيح في الزحام الشديد باسمها وأن أضعع رأسها على الأرض ميتة.

• ــ عائدة عــــــــــائدة

حتى أتنا صوت أحدهم

• ما تخفش يا بيه البنت أهيه معاي .

2

في المستشف وإجراءات الشرطة تم تحرير شهادة وفاة لها تحت ( مجهولة الهوية ) وأخذ عينة من دمها لمعرفة الحمض النووي لها والضايط يفهمني بأن الإجراءات مع السائق السيارة التي صدمتها ستتخذ والجثة ستحفظ في البراد لمدة قانونية يتم بعد ذلك دفنها في مقبرة الصدقات وعند مطالبة أحد بها ومطابقة الحمض النووي مع أحد من أسرتها سيكون من حقه تعديل شهادة الوفاة باسمها ونقل رفاتها إلى حيث يريد .

خرجت من المستشفي أمسك عائدة واقبض على يدها أخاف أن تفلت مني وهي لا تدري ماذا حدث لأمها كما لن تدري ما تخبئه لها الأيام القادمة أجرجر خطواتي تحت وطأة كابوس ألم بي لم استطع طرده عني حتى فتحت باب العربة وصوت عائدة يسألني .

• وين أمي يا عمي ؟؟؟

لحضتها لم أقدر على حبس دموعي فأسقطها كاملة وسط دهشة الصغيرة ومناداتها لي وسط دوامة حيرتي من عدم قدرتي على الجواب ،وحتى وهي تمتثل إلى أمري بركوب السيارة ُثم وهي تدخل معي دخل شقتي لم تكف عن السؤال.

• عمي ،عمي ،وين أمي،نبي أمي.

مقالات ذات علاقة

في البحر كلب

حسن أبوقباعة المجبري

قصة أرض

المشرف العام

الممحاة

خيرية فتحي عبدالجليل

اترك تعليق