رواية زرايب العبيد، لنجوى بن شتوان.
قراءات

(زرايبُ العبيدِ)… معاناةٌ إنسانيةٌ تطرزها لغةٌ متراقصةٌ

لم تغبْ صورُ الرقِ والعبودية وحكايات أصحاب البشرة السوداء عن صفحات الأدب العربي منذ عصره الجاهلي، بل ظلت أبرزها شخصية “عنترة بن شداد” الشهيرة حاضرة بشكليها الإيجابي المتمثل في الشجاعة والإقدام والبسالة في الحروب، والنبوغ في القريض والإسهام بمعلقة شعرية مشهورة ضمن المعلقات السبع ضمها ديوان العرب يقول فيها:

هـَلْ غادرَ الشعراءُ من مُـــتـــردمِ أمْ هلْ عرفتَ الدارَ بعــــــــدَ تَـوَهُــــمِ
يَا دارَ عبلةَ بالجَواءِ تكــــــــــلَّمِي وَعِمِّي صباحاً دارَ عبلةَ واسْلَـمِي
هَلاَ سَألتِ الخَيلَ يَا ابنةَ مـــالكٍ إنْ كُنْتِ جَاهِلةً بِمَا لَمْ تَعْــــــــــــلَمِي
يُخْبِرُكِ مَنْ شَهِدَ الوقيعةَ أَنَّنــــِي أَغْشَى الوَغَى وَأَعْفُ عِنْدَ المَغْـنَمِ

وكذلك شكلها السلبي الموسوم بنعوت الإهانة والاحتقار التي أطلقتها الألسن الجاهلية ذماً وقذحاً وطعناً في أصول عنترة العبسي وسواد بشرته، ونسبة أمومته إلى “زبيبة” الأمة الحبشية، والتي كانت جميعها تطغى عندهم على خصال فروسيته وبسالته وعفّته وسمو خلقه، وتسخر من مشاعره العاطفية، وحبه الجيّاش العفيف لابنة عمه “عبلة بنت مالك”.

غلاف رواية زرايب العبيد – الروائية نجوى بن شتوان

أما على صعيد الأدب العالمي فقد تناولت معاناة السود والزنوج العديد من الأعمال الإبداعية المتنوعة من أشهرها رواية “الجذور: ملحمة عائلة أمريكية” للروائي الأمريكي “اليكس هايلي” التي تتبع فيها تاريخ وأصول أسرته الزنجية جاعلاً بطل الرواية “كونتا كونتي” شخصية محورية يمثل أحد أجداده القدامى، حين أقتيد وأحضر في منتصف القرن الثامن عشر من ساحل جامبيا بغرب أفريقيا ليباع عبداً يخدم بإحدى المزارع بالولايات المتحدة الأمريكية. وقدم اليكس هايلي في هذه الرواية صورة مؤلمة وقاتمة جداً لمعاناة السود يقول فيها بأن كل القوانين في أمريكا كانت تصب ضد مصلحة السود، حيث تنص على جلد الأسود عشرين جلدة إذا تم إمساكه بدون تصريح تجول أو سفر، وعشر جلدات إذا رفع عينيه ونظر إلى سادته البيض في عيونهم، وثلاثين جلدة إذا رفع يده ضد مسيحي، ولا جنازة لزنجي أسود حتى لا تنقلب إلى اجتماع للسود. كما ينص القانون بشنق الأسود إذا قتل أبيضاً أما إذا قتل زنجيا فيجلد فقط.

إذاً طالما أن موضوع الرق والعبودية واضطهاد بني البشرة السوداء قد سبق تناوله عربياً وعالمياً فيا ترى ماذا أضافت الأديبة نجوى بن شتوان في روايتها “زرايب العبيد” لكل تلك المعاناة الإنسانية؟ وبماذا تميز هذا العمل الأدبي لكي يحظي بالتفوق ضمن القائمة القصيرة لجائزة البوكر العالمية للرواية العربية في دورتها لسنة 2017؟

فالمتابع لإبداعات الأجناس السردية القصصية والروائية في ليبيا يلاحظ أن الرواية النسائية تشهد تطوراً واضحاً على صعيد الموضوع والمضمون الفكري والشكل والبناء الفني وتقنية الأسلوب السردي، منذ أول رواية صدرت سنة 1972 بعنوان (شيءٌ من الدفء) للأديبة مرضية النعاس وحتى هذه الرواية (زرايب العبيد) للكاتبة نجوى بن شتوان التي حققت إنجازاً عربياً وعالمياً لم تنله الإبداعات الروائية الليبية النسوية السابقة، وذلك بترشحها ووصولها إلى القائمة القصيرة لنيل جائزة البوكر العالمية للرواية العربية لسنة 2017، وهو إنجاز إبداعي غير مسبوق يمثل اعترافاً عربياً ودولياً بابداعات المرأة الليبية، وإن كان قد سبقه فوز الكاتبة نفسها بجائزة الرواية العربية في الخرطوم عام 2005، إلا أن هذا الإنجاز المميز الذي تحقق مؤخراً من خلال قائمة جائزة البوكر، سيكون بلا شك حافزاً ومحركاً للعديد من الروائيين الليبيين من الجنسين، وتحدياً إيجابياً لهم جميعاً لبلوغه أو تجاوزه مستقبلاً، مما يجعلنا نترقب الإصدارات القادمة بكل الشغف واللهفة والتعلق بالآمال العريضة لتلك الغايات النبيلة المنشودة.

وفي (زرايب العبيد)، منذ أن يقابلك السطر الأول الذي اتخذته الأديبة نجوى بن شتوان عنواناً لمستهل فصول روايتها (القدر يجمع ويفرق) تأسرك فطنة الكاتبة والتقاطاتها الذكية وأسلوب التشويق المتواصل وأجراس التساؤل المتتالية، ولغة النص السردي المطرزة بإتقان المفردة اللغوية والعبارة الأنيقة وهي تحتضن أنفاس روحك، ورؤى عقلك، وتقودك بكل حنوٍّ ورقة وعذوبة، لاستهلال رحلة الإمتاع عبر فصول الرواية التي بلغت سبعة وأربعين فصلاً كالتالي: القدر يجمع ويفرق، لا تغلق باباً فتحه الله، إحكِ لي أنت الحكاية، في الإرسالية، أنا التي أبدو في الصورة، قرن الفلفل، أنا خيط وهو حيط، تمر الأصابع، أخي في كتاب الله، كلٌّ له مفتاح ضائعٌ يبحث عنه، حصان من الريح، أناس الأشياء المصنفة كسوء، ساسي يأتي واسقاوه يذهب، عبد وجمل وغياب، سليل الفجارات، آه يا عيني يا داي، المهاريسيتي، شارع تفاحة، دكاكين حميد، بنت قرنقل، الجرد والكاغد، الحريق، مساء الخير .. صباح الخير، العودة، نوار الورد، ماء السماء، عيده لجاب الله وتعويضة لسالم، أقدار خفية، يعطس ويكحّ، الحب خمرة العقل الوحيدة، الخطيئة، المنصّة، السوق، الطفل مقابل اللحم، لا محمد لا علي، قطعة منك خارجك، توسل، روحٌ جاثية في جسد واقف، الخرقة والدرويش، اقتفاءُ روحِ من تحب، القطة في الكيس، مفتاح دقيق، احتمي بالمسافة، الحقد، لا تطرق باباً مفتاحه معك، فضيلة الحق رذيلة الصمت، ما تحت الأرض يعادل ما فوقها.

إن جميع عناوين هذه الفصول تتأنق كثيراً في ارتداء معانيها وتمثل مفاتيح حقيقية لكل متن تتصدره، وتنسجم تماماً مع وقائعه وأحداثه وشخوصه وفضاءه الخلاب الذي استطاعت الكاتبة أن تجيد حبكته الدرامية بالغوص بعمق في الواقع الإنساني المعاش حد المطابقة الشخصية لمجتمع العبيد، وإضفاء جرعات عليه من خيالها الغزير الحالم بصور وقيم إنسانية تتداخل فيها عناصر شتى، بشرية وطبيعية مادية، وتمتزج في فكر الساردة لتنتج فضاءً تتأسس نقود واقعه المرير، وتصبو غاياته ومراميه البعيدة، إلى التسامح والمحبة والحياة المشتركة بين كل الأطياف التي تتعايش في مكان لا يبدو مجرداً أو حيادياً بل يستنطق العديد من الجماليات الفنية.

تمثل رواية (زرايب العبيد) استعراض صور اجتماعية غابرة لمآسي العبودية ومعاناة الرقيق والعبيد، المادية الجسدية والمعنوية النفسية القاطنين في أطراف مدينة “بنغازي” التي اتخذتها المؤلفة فضاءً مكانياً لروايتها تدور الأحداث فيه، داخل الحي أو “الكامبو” الذي يحتوي على البراريك والأعشاش والمساكن البائسة التي اختصرتها الكاتبة بكلمة جامعة (زرايب) في إشارة إلى المستوى المتدني من المسكن، وهذه الكلمة مفردتها (زريبة) وهي غالباً ما تطلق على الحظائر التي تخصص في ركن البيت أو المزرعة لإيواء الحيوانات مثل الأغنام والأبقار والماعز، وبالتالي فهي لا تحمل أدنى مقومات المسكن أو البيت البشري أو الإنساني البسيط.

في (زرايب العبيد) لا يشعر القاريء بغرابة الفضاء الذي تتحرك فيه شخصيات الرواية المتجانسة والمتكافئة فكرياً، بل يحس بوجوده طرفاً مشاركاً فاعلاً في وسطه بكل تلقائية، لأن الكاتبة استطاعت بكل إتقان وحرفية نقل تفاصيل ذاك الفضاء إلى أعماق فكره ووجدانه من خلال استحضار أسماء وعناوين الأماكن الحقيقية كما هي في الواقع الجغرافي سواء للمدن الليبية مثل (بني وليد، الكفرة، فزان، هون، بنغازي، زليتن، مصراته، تاورغاء، وغيرها) أو أحياء ومعالم مدينة بنغازي مثل (الزريريعية، دكاكين حميد، سوق الحشيش، الفويهات، خريبيش، الملاّحات، وسط لبلاد، الشيشمة العمومية، وغيرها) الأمر الذي يساعد على ترسيخ صور تلك الأماكن بكل معالمها في ذاكرة القاريء، ومن ثم استدعائها عند الإبحار في عوالم السرد الروائي لخلق روابطه الخاصة بين الواقعي والافتراضي أو التخيلي، وكل هذا يرفع درجة التشويق لجرعات تالية من السرد، ويفتح عوالم الخيال والمقارنة بين صورة وشكل المكان المنقول من الواقع إلى ذهن القاريء وذاك الذي رسمه خيال الرواية.

وبلا شك فإن تلك الأماكن والمعالم كافةً ليست مجهولة أو مجردة من هويّة بيئتها الوطنية بل كلها تصرّح بليبّية الفضاء وشخوصه وأحداثه التي تعززها لغة الحوارات المتفاوتة بين الفصحى واللهجة الليبية الدارجة، وتوطين أشكال عديدة من الموروث الفلكلوري الشعبي الليبي سواء بعض العادات والتقاليد (أنا حيط وهو خيط) أو الأغاني الشعبية (والله ياما ريتي … فرح وزها يالعين ياما ريتي .. الغالي قسم ياللي وراه مشيتي) أو الأسطورة (اعسيلية التي اختطفها الروماني واستردها سيدي عبدالسلام الأسمر) أو الخرافة (أم بسيسي) أو المفردات المحلية (الشوشانة، البيوض، الزميتة، السفنز، الزمزامة، الدنقة، الكويسات، وغيرها) أو أسماء الخمر المحلية (نازلي درنه، اللاقبي، المريسا) وغيرها من المفردات أو العبارات التي لا يمكن أن تتواجد إلا في قاموس الحياة الليبية بوجه عام والبنغازية (كوية الملح) في شرق ليبيا على وجه الخصوص. وبالتالي فإن كل هذه العناصر المميزة تسبغ على الرواية هوّيتها الليبية لتؤكد ريادة الأديبة نجوى بن شتوان في تناول موضوع ضحايا الرق والعبودية في المجتمع الليبي، ونفضها الغبار عن العذابات القاسية والمعاناة والممارسات العنصرية، المسكوت عنها لعقود طويلة منذ الحكم العثماني مروراً بالاحتلال الايطالي وحتى الوقت الراهن، ومن ثم فإن (زرايب العبيد) تقرع الأجراس الآن بكل قوة في وجه الأبحاث الاجتماعية والانتربولوجية ودعوتها لتناول هذا الموضوع بالدراسة الجادة والتحليل الموضوعي الدقيق ورصد مؤشراته السلبية والاجتماعية وتبني استراتيجية إنسانية وطنية ليبية للتصدي له وتصحيحه مستقبلاً.

إن وصف (زرايب العبيد) بأنها رواية مكان أو رواية تاريخية لا ينتقص منها شيئاً ولا يقلل من قيمتها الابداعية على الاطلاق، ولا يعني أنها رواية تقليدية تتكيء على ماضوية التاريخ وأمكنته ورموزه وأحداثه فحسب، بل جاءت الرواية لتكون كل ذلك وأكثر، بمعنى أن ظهور التاريخي والواقعي والتخيلي والافتراضي والأسطوري الغرائبي فيها يمثل زاداً قوياً يعزز بنيانها الفني وكيانها السردي، الذي استجابت فيه تماماً للتعريف العلمي لمصطلح الرواية كجنس أدبي إبداعي والذي يقول بأنها تتسع لقول كل شيء وأكثر. وعلى هذا الأساس فإنه لابد من الإعتراف بأن لذة قراءة رواية (زرايب العبيد) تنبع من لذة اللغة التي كتبت بها الرواية ذاتها، وأسلوب موضوعها المحفز على المزيد من التعلق بأحداثها وشخصياتها للإرتواء من ينابيع الإبداع والنهل من قصص وحكايات ومعارف واسعة وإن كانت مريرة وقاسية أحياناً، كما أن أسلوب الكاتبة الممتع استطاع تحرير أجنحة الخيال لدى القاريء وإطلاقها صوب مدايات ومسارات أخرى قد تتلاقى مع نظيراتها في الرواية، وقد تتخذ اتجاهات وتصويرات مختلفة غيرها. والأبرز من ذلك كله هو كم الأسئلة المتنوعة التي جعلتها الكاتبة محفزةً للقاريء للتفكر والتأمل والتدبر في كثير من المواضيع التي تثيرها الرواية، وأضفت على الحبكة الروائية والحوارات العديدة امتاعاً وتشويقاً متواصلاً.

(أحضر لها هدايا من بينها فستان من الساتان الأحمر، قال لها:

– تقدَّمي ألبسك إياه.

تضاحكا وهي تقول له:

– هل تُلبسني أم تلمسُني؟ الفستانُ ليس به شيء يعطل مثوله على جسدي إلا البروز القليل لبطني.

– هذه ليلة يطيب فيها الشراب والرقص والغناء والحب والدلال إلى ما نهاية. خذي الحزام واحتزمي وارقصي.

– كلا، لا أستطيع

أطبق ذراعيه حولها ليس كما في السابق وأقعى على ركبتيه سائلاً:

– كم عمره؟

– منذ ليلة سفرك خلق كتابه. هل تريده أم أسقطه؟

– بذوري لا تسقط. إياك أن تفعلي شيئاً من ورائي.

– إذاً أعطني العهد بأن تعطيه اسمك وألاّ تبيعه ولا تدع أحداً من العائلة يشتريه أو يأخذه مني.

– لا تخوضي في الهموم. هو ابني وسأحمله بين يدي إلى الجامع عندما يأتي كي يعلم الناس كلهم أنه مني ومن مولاتي التي أنا عبدها السميع المطيع.)

وأبانت (زرايب العبيد) عن جرأة وشجاعة مبدعتها التي تمثلت في انحيازها صراحة لبطل الرواية (سيدي محمد) وبالتالي منحته لقب عائلتها الحقيقي (بن شتوان) في نص روايتها، وتحملها ما قد يجره عليها ذلك من تبعات أسرية وضريبة اجتماعية قاسية لمواجهة أصوات عائلية لا تقبل ذلك الانتساب، وتضعها أمام مسئولية محاججتها والتصدي لها. وكذلك التصوير السلبي للرمز الديني المعروف والمشهود له ظاهرياً في الرواية بالتقوى والورع والعبادة والوجاهة الاجتماعية وهو (الفقي) شيخ الجامع، ووسم شخصيته بسلوكيات متناقضة مع الأخلاق الفاضلة وتعاليم الدين الإسلامي الذي يفترض أن يكون (الفقي) قدوة فيه للآخرين، عكس ما صورته الكاتبة كشخص خبيث مخادع يحيك الدسائس، ويتستر على جريمة قتل الطفل الوليد والزعم بنسبه لإبنه، وممارسة الجنس والزنا في (تعويضة) بروح الغل والانتقام، كما صوّرت ابنه (حسين) الحافظ للقرآن الكريم من اللوطيين الشاذين جنسياً (يعطس ويكح) الذي يتلذذ بممارسة الجنس فيه، ويستدعي العبد (سالم) لمواقعته في إحدى زرايب الحيوانات لمنحه بعضاً من المتعة الجنسية والراحة النفسية. كل ذلك يؤكد أن المؤلفة تتعزز بفكر مستنير يؤمن بأن هذه التصرفات الجنسية الشهوانية والسلوكيات السلبية كافة قد ينطبع بها المتدينون وغيرهم على حد سواء، وقد تكون حمّلتها إشارات ورموزاً أخرى لم تفصح عنها بشكل مباشر. وربما اختارت الكاتبة إسقاط هذه الصفات السئية على (الفقي) لأنه خصم أو ند البطل في روايتها، وبالتالي فإنه من الضرورات الفنية لإدارة الحكبة الروائية بين الشخصيات إظهاره بهذه الصورة المواجهة للبطل.

إن جرأة الكاتبة في التطرق إلى المواضيع المسكوت عنها في مجتمع (زرايب العبيد) لم يتوقف عند تلك الفضائح اللواطية فحسب، بل نجدها تتناول موضوع إجهاض الإماء وإسقاط حملهن، وممارسة الجنس كعنصر أساسي يستغله الرجل الحر السيد، تحت سمع وبصر العائلة وبمباركة المجتمع، رغم تنافيه مع تعاليم الدين الإسلامي، لإشباع نزواته الشهوانية وغرائزه الجنسية، وإفراغ نطفه في أرحام الإماء دون اكترات لعواقب تلك اللحظات الجنسية الآثمة وغير عابيء بنتائجها على الطرفين، مع الإصرار على إنكار نسب المواليد واعتبارهم عبيداً وفق العرف السائد في ذاك المجتمع التعيس.

(قالت أمه لأبيه في وقت متأخر جداً من الليل:

– أرسل في طلب الشوشانة التي سلبته عقله وجعلته يترك زوجته. يا لها من كارثة ! أقسم بتراب قبر أمي أنها سحرته. فضلة نساء العالمين تفعل به كل هذا ! سيقتلني بالسكتة يوماً ما هذا الولد الشقي!

لم يكن السيد الكبير راضياً عمّا يحدث لكن شوقه لولده أسكته قليلاً. تمتم لزوجته بأن تهدأ وتتركه لشأنه:

– دعيه الليلة فقط، ثم سأتدبر الأمر بنفسي.

قالت السيدة:

– دون حياء أو خجل، يستبدل بزوجته الجميلة عبدةً سوداء من عبيد جده يشاركه فيها عبد. ألا يخجل حتى من كونها حامل؟ أقسم أنها عملت له عملاً كي تسلبه ماله وعقله، وها هي تنجح.)

ولم تغب صور الفئات غير الإسلامية في المجتمع عن هذه الرواية، مع التأكيد على أن الكاتبة ألمحت منذ البداية إلى أنها لا تتهم جنساً معيناً أو عرقاً محدداً بالمسئولية عن معاناة العبيد، بل تؤكد بأن الرجال والنساء، الأحرار الأسياد والخدم العبيد، يشترك جميعهم في تلك المأساة الإنسانية، حيث نجدها تقول بصوت الساردة (.. يأتي العجوز الزنجي المخصص للمراقبة فيشتمنا ببرطمته الغريبة ويضرب من تطاله عصاه منا حتى وإن لم يكن طرفاً في الشجار. يتبادل الإشراف على عمال الغربال الصغار مجموعة من السود، بينهم نساء، يمرون متفحصين عملنا قبل أن يختفوا في أعشاشهم من الحر، ويأتوننا بين الحين والآخر ليحثونا على العمل، ضاربين البعض بخوص النخيل الذي يستعملونه لهش الذباب…).

وكذلك لم تغفل الإشارة إلى معاناة شريحة أخرى من المجتمع الليبي وهم يهود مدينة بنغازي حيث تحكي الساردة عن قصة زواج (رضوان خليفة رضوان) المسلم إبن إحدى العائلات البنغازية الأصيلة من فتاة يهودية تدعى (خميسه بنت سيحون) ابنة تاجر الخردوات. وتحلل الراوية (سدينة) تداعيات هذا الزواج وهي تخبر العمة (صبرية) عنه كفرصة لغسل الحصر ونيل بعض الأجر نظير ذلك، فتقول: (..سيغضب يهود المدينة من هذه الزيجة، كما سيغضب سكان بنغازي المسلمون من هذه المصاهرة غير المعقولة وغير المحسوبة. سوف يصر آل رضوان على إعلان خميسه إسلامها أمام حشد من الأعيان يتوسطه شيخ الدين، حتى يصح زواج ابنهم ويجد له مبرراً من لائمة الناس، وسيخزي اليهود هذا الإعلان ويدسون رؤوسهم متناوحين في معبدهم بشارع القزار. أم خميسة يهودية متدينة، لن يناسبها زواج ابنتها التي نذرتها لخدمة الرب من رجل مسلم، ستقيم لها مأتماً وليس عرساً، مع أختيها المتشددتين “سيسي” و”مزالا”).

وإن كان حال مجتمع العبيد السود وفئة اليهود قد ظهر بائساً وفقيراً ومنحرفاً جداً عن نهج الحياة ودروبها المستقيمة فقد أظهرت لنا الكاتبة في روايتها الإرسالية المسيحية بصورة مغايرة تختلف في بيئتها ودورها الاجتماعي والإنساني بشكل إيجابي (أطفال كثر أيتام سود وغيرهم، تعهدتهم الإرسالية، علمتهم القراءة والكتابة وقواعد السلوك وآدابها، مسحت منهم أشياء ووضعت أشياء أخرى أكثر رقيّا وتمدناً). ولكن رغم كل هذه المشاهد المتنوعة التي تعكس تعدد الحضور والتسامح الديني الذي عليه مجتمع (زرايب العبيد) إلاّ أنه ظل يقاسي عذابات تنفرها الأديان والشرائع السماوية والمباديء الإنسانية كافةً.

إن الكاتبة أجادت في جعل مستهلِ الرواية خاتمةً نسبية لنهاية (تعويضة) ومعاناتها القاسية في (زرايب العبيد) كنوع من استحضار المواقف الاسترجاعية الفلاش باك (Flash Back)، حيث بدأ المشهد الأول في الرواية بحضور رجل غريب إلى بيت (عتيقة بنت تعويضة) طالباً مقابلتها بشكل شخصي وسط تعجب واندهاش زوجها الذي ظن أنه ربما رسول عاجل من الإرسالية، وحين تخرج (عتيقة) لمقابلته يعطيها الرجل وثيقة تثبت هويتها ونسبها، وكأن تلك اللحظة تمثل صحوة ضميره الإنساني واعترافه الشخصي بالذنب الذي جناه عليها، راجياً منها قبول الوثيقة ومنحه فرصة التكفير عن ذاك الذنب الشنيع لتصحيح ما أفسده وإن كان ذلك بعد سنوات وعقود طويلة. فهل حقاً يستطيع العطار أن يصلح ما أفسده الدهر؟ أم أن حرق (زرايب العبيد) سواء بوباء الطاعون أو ألسنة النيران أو غيرها لا يعني حرق مأساتهم ونهايتها من تفكيرنا وواقعنا الاجتماعي؟

في كل الأحوال تظل (زرايب العبيد) رواية ليبية بامتياز ولدت من رحم ماضي مرير لازال يلقي بظلال ارتداداته وامتداداته الاجتماعية، ونسجتها سبحات خيال خلاب يطمح ويتطلع إلى حياة شريفة تتنزه عن كل ما يُعرض كرامة الإنسان إلى مسٍّ أو خدش أو إهانة. والكاتبة الروائية نجوى بن شتوان ظلت على مدار سنوات من المعاناة تبذل الجهد المفعم بروح الأمل في تطريز وحبك هذه الرواية بداية من سنة 2006 في بنغازي بليبيا إلى نهاية سنة 2015 في إيطاليا، حتى استطاعت أن تقدم للمشهد الروائي الليبي والعربي والإنساني عملاً إبداعياً يستحق الثناء والإشادة والتوقف عنده ملياً للتأمل في الرسائل والمضامين السامية التي يسعى إلى نشرها وتعزيزها على امتداد هذا الكون الفسيح.

فهل نفعل؟

مقالات ذات علاقة

رحلة ايشي

خديجة زعبية

ظمأ الروح في قافلة العطش قصة “تحقيق صحفي” أنموذجاً

المشرف العام

بوكليب ويد التاريخ

رامز رمضان النويصري

اترك تعليق