رواية زرايب العبيد، لنجوى بن شتوان.
النقد

رواية عن مأساة الزّنوج في بنغازي العهدين العثمانيّ والإيطاليّ

إبراهيم الحجري- روائي وناقد مغربي

غلاف رواية زرايب العبيد – الروائية نجوى بن شتوان


تسلط رواية “زرايب العبيد” المرشحة لجائزة البوكر العربية في دورتها الحالية، ضمن القائمة القصيرة، على المحن التي كتبت على الزنوج الأفارقة عبر تاريخ دموي من القهر والاستعباد والرق، حيث كانوا يباعون ويشترون بأسواق عالمية عرفت بـ”أسواق النخاسة” في ظروف جد مزرية تمتهن في كرامتهم، باعتبارهم كائنات آدمية خلقت سواسي مع كل الكائنات الآدمية الأخرى مع فارق اللون والمجال الجغرافي اللذين لا يمنحان، في حد ذاتهما، أي مسوغ للتنقيص من قيمتهم كمخلوقات إنسانية، ومنحهم رتبا ودرجات أقل مقارنة مع البشر من أعراق أخرى.
يأتي الزنجي إلى هذا العالم عن غير اختيار لوضعه السياقي، فيجد نفسه عبداً أبداً لغيره من البشر الذين لا يتميزون عنه سوى باللون والوضع الاجتماعي الذي خولته لهم مكانتهم الموروثة، ولا يمنح أية فرصة ليقاوم مصيره، فقدره أن يظل خديم أسياده في السراء والضراء دون إبداء أي تبرم، منتظراً أن تأتي معجزة من الله، فيلين السيد ويحرره، أو ينتظر من صاحبه زلة العمر التي لا يمحوها سوى كفارة العتق…
1. ظلم تاريخي:
تكشف “زرايب العبيد” مأساة النوع البشري في صراعه الأزلي مع السُّلَّمية الاجتماعية الموروثة، تلك التي لم يخترها عن طواعية، ولم تتح له حتى الفرصة في الانعتاق منها أسوة بأقرانه. وبالأخص النوع الأسمر أو الزنوج أو ما تسميهم الرواية “العبيد”، وهو المصطلح الأقرب إلى التعبير الأدق عن الوضع الكارثي الذي عاشته شخصيات هذا المحكي الروائي، وهو فيض من غيض مما عاشه وقاساه سكان قارة إفريقيا عبر التاريخ، وما يزالون يعيشونه بأشكال متفاوتة، بالرغم من التحولات التي عرفها العالم على مستوى تسويق المفاهيم الحقوقية، والقيم المشتركة المتعلقة بالإنسان، والمرتهنة بمجموعة من المواثيق، التي تظل في معظم بنودها وتفاصيلها، مجرد أوراق للإشهار في كثير من أرجاء المعمور.
تنبش نجوى بن شتوان في التاريخ القريب/ البعيد، وبالضبط الفترة المتراوحة بين الحكم العثماني لليبيا، والمرحلة الاستعمارية التي قادتها إيطاليا، مركزة على وضع اجتماعي قاس عاشته أقلية من السكان المتحدّرين من الجنوب، المحتفظين بسحنتهم السّمراء، المحسوبين على الرّقيق، والمعزولين عن العالم في زرايب لا تليق حتّى بالحيوانات، محرومين من أبسط الحقوق، مجردين من أية حماية بالرغم من كونهم ولدوا أحراراً.
ولعل اختيار المكان والزمان والفترة التاريخية في هذا المتن تدابير إجرائية فنية يقتضيها منطق الكتابة الروائية، أما الجوهر فهو كون الرواية تعالج، انطلاقاً من عناصر التشخيص والتمثيل والتصوير والانتقاء والتلميح… التي تتيحها الخصوصية السردية للمحكي الروائي، ظاهرة شمولية لطالما عانت من تبعاتها الإنسانية، فصارت بحكم القدم والاعتياد وثقافة الانتهاك، بداهة اجتماعية تمارس بالوعي وبدونه، وكأنها تصميم إلهيّ.
لقد ساعد هذا التماهي مع قضية العبيد تاريخياً، الكاتبة في التمكن من ملامسة جوانب القهر الممارس على هاته الفئة، وتطويق أبعادها الاجتماعية والاقتصادية والإنسانية، وتقليب الظاهرة على أوجهها المتعددة، تلك التي لا يراها أغلب البشر… إذ غاصت في نفسيات العبيد، ذكورا وإناثا، وحركت البرك الآسنة في أعماقهم، لتَخْلص على ألسنتهم، باعتبارهم شخصيات روائية، إلى سبر المناحة البشرية التي تسكنهم، فيغطون عليها بصبر متناه، وكأنها أقدارهم تلك التي راحوا يجترونها أبا عن جد، في سلسلة نارية من العذاب والعناء. كما أن الحكاية الدامية التي شكلت عصب المتن الروائي، نجحت في اختزال كل خيوط الدراما البشرية التي صورها العبيد بدمائهم على صفحة الأرض.
2. المرأة مرة أخرى:
بالرغم من كون المحكي يعالج ظاهرة الرق في شموليته، ويستكشف بشاعاته الإنسانية التي أتت على أجيال من أبناء القارة الإفريقية، لا لشيء إلا لكون لونهم مختلف، وجغرافيتهم مغايرة، ومع أن الرواية سلطت الضوء على معاناة هذه الأقلية المظلومة ذكوراً وإناثاً، غير أن الروائية نجوى بن شتوان، تصطف، عن وعي أو بدونه، لإحساسها الأنوثي، وهويتها الجنسية، فتنحاز لقضية المرأة، مبينة أن القهر الذي عانته الأمة لا يعادل ما عاناه العبد الذكر، مهما اشتدت عليه النّائبات، وتكالبت عليه المحن، إذ إنّ الخصوصيّة الأنثوية للمرأة، وطبيعة أحاسيسها المتداخلة والمتدفّقة، وتوزّعها بين كونها تقع في مقصف الرّغبات الذكريّة، وإغراءات الغريزة الدّاخلية، وهواجس الحبّ والأمومة تشكّل، بالنّسبة إليها محناً مضاعفة مقارنة بالعبد الذكر الذي تنتهي هاته الدّوافع لديه بمجرّد إخصائه، قبل أن تستدرك لتجعل العبد المخصيّ، في محكيّها، غير بعيد عن الطمع الغريزيّ الحيوانيّ لدى الأسياد.
تعرض الرّواية قصة عتيقة، وهي تترعرع بـ”زرايب العبيد”، حيث حُشر عدد كبير من الزنوج الفارين من هيمنة الأسياد بعد أن أهبوا سنين من أعمارهم في خدمتهم، في ظل القهر والمعاناة والحرمان من أقل الحقوق الإنسانية، وقصة أمها “تعويضه” التي تعلق بها سيدها “محمد بن شتوان” وتعلقت به، وعاشا عشقهما على هامش الحياة خلسة من الأقارب الذين عابوا على محمد بن شتوان هذا التعلق الغريب بعبدة، وترك زوجته الحرة وبناته، وضرب كل الأعراف والتقاليد عرض الحائط، وأمام إصرار محمد على الارتباط بتعويضه، والبحث عنها، اجتهد الأهل طويلاً ليفرقوا بينهما، ليفلحوا في ذلك، بعد أن أرسلوا محمد في رحلات تجارية طويلة ليخلو لهم الجو كي يتخلصوا من عشيقته دون تدخل منه، وبالفعل ذاك ما حصل بمساعدة الفقي الذي أودعها في ماخور ليخلو له الجو للاستفراد بها قهرا، قبل أن تنجح في التخلص من الفرار من سجنها واللجوء إلى الزرايب، واستكمال معاشرة خارجة نطاق الأعراف بينها وبين محمد ستثمر ابنة تسمى عتيقة كتب عليها أن تعيش اليتم، والقهر والعناء دون أن تستفيد لا من حنان والديها، ولا من ثروة أبيها، ولا من أوراقها الثبوتية التي تصلها بشجرة نسبها من جهة أبيها الذي رحل في عز شبابه.
وبين القصتين، قصة الأم وقصة البنت، وصل عميق، لكون حكاية الانتهاك تتكرر بطرق مختلفة، وكأنها تجديد للمأساة، وترسيخ لها عبر المجايلة مع تغير المقولات والمفاهيم، صحيح أن عتيقة حرة، عكس أمها التي عاشت حياتها تتقاذف بين الأسياد، لكنها حرية مبتورة ما دامت نظرة المجتمع لم تتغير، ونظرة البيض لم تتطور، فقد انتقل الوضع من عبيد الدار إلى عبيد الأفكار والمجتمع، حيث تم حشرهم بعيدا عن المجموعة البشرية على هامش المدينة دون أية كرامة ولا تقدير، مجردين من أبسط الحقوق، واستمر استغلالهم من قبل العائلات الكبرى، والأسياد في تشغيلهم بأعمال شاقة ومرهقة وبمقابل زهيد لا يرق إلى مستوى الأتعاب والجهود.
33. مادة اثنوجرافية:
تضع الرواية بين يدي متلقيها مادة إثنوجرافية دسمة؛ تجعلها قابلة للاستثمار في رصد ظواهر اجتماعية وسياسية واقتصادية ولغوية تتعلق بتلك الفترة المفصلية من تاريخ ليبيا، حيث يعود المحكي للنبش في فترة ما قبل الاستعمار الإيطالي وإبانه، واستغوار معطيات مهمة جداً قد لا تتيسر لمؤرخ لأنها نابعة من الأحاسيس، والكوامن البشرية العميقة غير الظاهر للعيان، وكأنها شبه شهادة على عصر منفلت.
نلفي المتن الروائي، معجماً لغوياً غميساً ينهل من العامية المحلية، خاصة ذاك المرتبط بالعبيد، وثقافتهم، وهو معجم بدأ يضيع الآن، بعد أن كان في زمن الرواية متداولاً بشدة؛ ليس في ليبيا فحسب، بل بالعديد من أرجاء المعمور. وقد تعمدت الروائية لغايات فنية الاحتفاظ بالمفردات نفسها، وإقحامها في النسيج اللساني للرواية، مع التنبيه لمقابلاتها باللغة الفصحى، أو شرحها في هامش خاص، وهو جهد لغوي كلف الروائية كثيراً من الوقت، فرفد الرواية بحيوية خاصة، وجعلت القارئ في قلب لحظة تاريخية قديمة بكل أبعادها اللغوية والنفسية والاجتماعية، الشيء الذي يقحم هاته الرواية في صنف الروايات البحثية أو الإثنوجرافية التي تستدعي إجراء تحقيق متكامل حول المادة المستقاة وطبيعتها، حفاظاً على انسجام النص، واندراجه في نسقه التاريخي والإنساني.
وفضلاً عن الجانب اللساني، نجد مادة تاريخية متخيلة، وبيانات عن فترة ما قبل الاستعمار، وعن صورة البنية الأسرية والعائلية آنذاك، وكيف كان مجتمع العبيد حاضراً بقوة، وفاعلاً بالرغم من الحصارات التي لا يمكن أن تطوق التفاعل الإنساني بين بشر يعيشون في فضاء واحد. وقد أفرز هذا التمايز الطبقي؛ عالماً متداخلاً ومتناحراً من القيم الوليدة التي نمت وتغذت من المتخيل المجتمعي، لتصنع لها قواميس وفلسفة خاصة باتت راسخة مع توالي العوائد وتناميها واسترسالها وامتدادها في التاريخ.
وعرضت الرواية أمام القارئ زخماً من المعطيات المرتبطة بأسواق النخاسة، وسلوكيات البائعين والزبائن، والتعابير الموظفة في هكذا مناسبات، وطقوس الخدمة التي يؤديها العبيد للأسياد، وأساليب تأنيبهم وتعذيبهم ومعاقبتهم وحتى تحريرهم الذي لن يكون إلا باشتراطات وتنازلات جمة يقدمها العبد المنعتق.
وتصور الرواية الطقوس السحرية والأسطورية التي كانت متفشية في المجتمع الليبي، خاصة منها ما يفرق بين المحبين، وما يشد بينهما، فضلا عن طقس “تقفيل البنات” والاعتقاد بأن ذاك يمنع عنهن السقوط في المحظور، ناهيك عن طقوس الدخلة وليلة العروس وتزيينها وحفلات الأعراس والولائم والجنائز، وأساليب تحضير الموائد، وكثيراً من الأغاني الشعبية التي كانت تردد لحظتها.

____________________

العدد 56 من مجلة الإمارات الثقافية

مقالات ذات علاقة

خردة في ميزان النقد

إبتسام صفر

‘قسامي’ شروع هذياني في كتابة المختلف

محمد الأصفر

تبقى الحياة والمعرفة

عمر أبوالقاسم الككلي

اترك تعليق