المقالة

دفاعا عن الشريف الرضيّ من أوهام المتأخّرين

امتدادا لإعجابي الشّديد بشخصيّة “الشريف الرضيّ” (1) [ت 406 هـ] التي جمعت بين أدبيْ الدرس والنفس، وحازت من العلم والشرف ما حازت؛ أجدني مضطرّا لأكسر عزلتي توضيحا لقصّة رائجة نسبتْ خطأ له، والصحيح أن تنسب لأخيه الأكبر “الشريف المُرتضى” [ت 436 هـ] والأصحّ أن يُنظر في صحّتها جملة؛ إذ هي موضع نظر عندي.

وملخّص القصّة المقصودة المشهورة (أنّ الشريف المُرتضى، المتّهم من البعض ببغض المتنبّي، التقى بالمعرّي المعروف بتعصّبه له. فانتقص المرتضى من المتنبّي في حضرة المعرّي، فردّ الأخير بقوله: لو لم يكن للمتنبّي من الشعر إلا قوله: (لك يا منازل في القلوب منازل) لكفته فضلا. فغضب المُرتضى وأمر فسُحب المعرّي برجله خارج مجلسه. وذلك أنّ المعرّي قصد بالقصيدة بيت المتنبّي:
وإذا أتتك مذمّتي من ناقصٍ *** فهي الشهادة لي بأنّي كاملُ) أ.هـ بتصرّف.

فقد سمعتُ وقرأتُ لغير واحد من المتأخّرين نسبة القصّة خطأ للشّريف الرضيّ، وهذا لا يصحّ؛ فالشريف الرضيّ أديبٌ أريبٌ يعرف الفضل لأهله، ولم يُنقل عنه لمزٌ لأبي الطيّب. هذا أوّلا. أمّا ثانيا، فلا أعلم أحدا من المتقدّمين نسب هذه القصّة إلى الشريف الرّضيّ أبدا، إنّما ذلك من أوهام المتأخّرين وما أكثرها. وأقدم من وجدته – اعتمادا على الشاملة (2)- ذكر القصّة كان ياقوت الحموي [ت 623/626 هـ] في معجم الأدباء. ونسبها للشريف المرتضى.

أمّا ما يجعلني أقف موقف الشكّ من القصّة برمّتها (3)؛ أنّ أحد شيوخنا أرشدني إلى مرثيّة (فائيّة) لأبي العلاء المعرّي في أبي أحمد الموسويّ والد الشريفين الرضيّ والمُرتضى. وجاء فيها على ذكرهما مادحا مُشيدا مقرّا بمكارمها. لذا فإنّي أعجب من تعمّد الشريف المُرتضى الإساءة للمعرّي وهو يعرف من هو! بل يذكر الرواة أنّ المرتضى أوّل ما عرفه استدناه وأكرمه.
إضافة إلى أنّ أقدم راوٍ للقصّة – فيما أعلم – ياقوت الحمويّ ذكرها مجهولة المصدر فقال (نقلتُ من بعض الكتب) وزد على ذلك أنّ ما بين الحمويّ والقصّة قرابة قرنين من الزمان !
وأيّا كان من أمر صحّتها؛ فالمهمّ عندي أنّ الشريف الرضيّ بريء منها.

قد يقول قائل: عجبا لك أيّها المُستجير! أتكسر عُزلتك دفاعا عن الرضى وإنصافا للمعرّي. فأقول له: كيف لا أكسر عزلتي لأجلهما؛ وأنا أحببتُ بالأوّل وأبصرتُ بالثاني (4).

06/02/2019

________________________

(1) “الشريف الرضيّ” هو غير “الرضيّ الإستراباذي”. فقد وجدتُ أيضا من يخلط بينهما. فالشريف الرضيّ توفي سنة 406 هـ وأبرز آثاره “نهج البلاغة” وديوان شعر سالَ عذوبة وبلاغة، ففاق أقرانه شعرا ونثرا. أمّا الرضيّ الإستراباذي فقد توفي سنة 686 هـ على الأرجح (ولا يُلتفت لشكّ السيوطيّ في بُغيته). وأشهر آثاره شرح كافية ابن الحاجب (ت 646 هـ) وهو شرحٌ رائق عظيمٌ يُذهب بالألباب أنصح كلّ مهتمّ بفنّ النحو به.
ومن اللطيف ذكره أنّ الكافية مؤلفها كرديّ (ابن الحاجب)، وشارحها الأبرز فارسيّ (الرضيّ الأستراباذي) 

(2) أعترف بقصور استقرائي وتقاصر الشاملة، إذ أنّها ليستْ شاملة، ولا ضامنة للصواب عن الكتاب. فربّما وُجد من هو أقدم من الحمويّ ذكر القصّة. وإن كان لأحدٍ من الأفاضل رأي آخر أو إطلاع أوسع؛ فليُكرمنا به.

(3) والشكّ عدم الاستيقان، واستواء النّسبة. فلا نحن نجزم بثبوتها أو ننفيها. إنّها هي ملاحظات أردنا التنبيه عليها.

(4) إلّم تجد ما تكتبه تعليقا على هذا المنشور؛ فما رأيك أن تنقل لنا بيتا للشريف الرضيّ أعجبك؟

مقالات ذات علاقة

البعد السياسي في بعض أفكار المعتزلة

عمر أبوالقاسم الككلي

رحيل الرفيق القديم

مفتاح قناو

التأثير الخفي للآيديولوجي والسياسي على الفكر

عمر أبوالقاسم الككلي

اترك تعليق