النقد

حداثة القبلي

من أعمال التشكيلي عمر جهان
من أعمال التشكيلي عمر جهان

ظل سؤال النقد الشعري في ليبيا ولسنوات عديدة مضت يتكئ على الكتابة الانطباعية والوصفية التي تعيد نثر النص ووصفه من خارجه ومحاولة إدراجه ضمن سياقاته التاريخية والاجتماعية، وهكذا وقف سؤال النقد في ليبيا (عند دوره كمرآة عاكسة للتجربة الشعرية ليقول نثرا ما تقوله شعرا يحاذيها خطوة بخطوة لا يتقدم عنها ولا يطرح أسئلة مغايرة لأسئلتها أو لطموحها(1)، ويمكننا أن نستثني من حكم القيمة هذا. كتاب الأستاذ خليفة التليسي (رفيق شاعر الوطن) الصادرة طباعته الأولى سنة 1965، الذي تشكل إجماع ثقافي على اعتباره الكتاب الرائد في التناول الموضوعي والمنهجي للتجربة الشعرية التقليدية الحديثة من خلال خصوصية التجربة الشعرية التقليدية الحديثة من خلال أبرز رموزها وهو الشاعر (أحمد رفيق المهدوي) وقد استمر هذا الكتاب ولأكثر من ثلاثين عاما المرجع الرئيسي للممارسة النقدية التي تناولت هذه التجربة.

وبصدور كتاب (قصيدة الجنود)(2) للكاتب والناقد أحمد الفيتوري يمكننا القول بأن الحياة الثقافية الليبية على وجه العموم، والتجربة النقدية بشكل أخص، قد ولجت إلى مدخل جديد في قراءة وتحليل مسارات التجربة الشعرية، وهذا الكتاب في اعتقادي يمثل نقلة نوعية في مجال الكتابة النقدية الحديثة التي تناولت التجربة الشعرية الليبية. وأول المسائل التي تعطي هذا الكتاب جدته وأهميته، منهجيته الحديثة التي تتعاطى مع رؤى ومناهج ومصطلحات (الحداثة- وما بعد الحداثة) الشبه غائبة عن معظم الكتابات النقدية التي تناولت هذه التجربة، ونحن إذا ما استثنينا كتاب (فعل القراءة والتأويل) سنة 1996 للشاعر مفتاح العماري فإن لغة ومفاهيم ومناهج ومصطلحات الحداثة لم تعرف طريقها إلى حقل النقد الأدبي في ليبيا إلا من خلال بعض المقالات المنشورة في الصحف والمجلات ولم يضمها كتاب واحد يؤشر إلى فكرة رئيسية متنامية.

يحدد الناقد والكاتب ( أحمد الفيتوري) في مقدمة كتابه (قصيدة الجنود.. في المسألة الشعرية الليبية) -وهذا هو عنوان الكتاب- مفهومه للحداثة بالقول أن ( الحداثة ليست أسلوبا بقدر ما هي بحث عن أسلوب، بمعنى فردي موغل في الفردية، والإيغال في الفردية ليس هو حداثوية ولكن سمة من سمات هذه الحداثة التي هي على النقيض من أي إيغال في الوثوقية، وعليه فإن الباحث الجاد هنا والآن باحث عن ذاته، عن معنى لهذه الذات أو معنى الكيان)(3).

ومن خلال مفهوم الحداثة كأسلوب فردي في البحث عن هوية الذات يتحدد مجال القراءة في المسألة الشعرية الليبية. والحداثة وفق هذا المنظور تتشكل عبر بناء كينونة الإنسان/ الفرد ضمن سياق حركية التحولات الاجتماعية والتاريخية وحركية التقنية الفنية والتطور الثقافي في إطاره العام، وبهذا يمكننا أن نرى في هذا المفهوم للحداثة كمشروع للعقلانية والتفتح والتعددية المحققة لمبدأ هوية الفرد التي هي حسب رأي الفيلسوف الألماني- هيدغر- سمة من سمات الكينونية أي العمق الذي يحمله أي كائن، والذي فيه ومن خلاله تتحقق الحداثة كممارسة ورؤية للعالم.

والحداثة الشعرية التي يبحث فيها كتاب الفيتوري شائكة ومركبة، فهو يحرث في أرض بكر، سطحها الرخو لا يشي بعمقها الصخري، إنها الحداثة المولدة بالتلقيح الصناعي فليس ثمة واقع ثقافي وبالتالي شعري في ليبيا أحدثت معه موجة الحداثة انقطاعا معرفيا وفنيا، وإذا كانت الحداثة في تعريف من تعريفاتها العديدة تعني نفي، وتجاوز وقطيعة مع الثقافة التقليدية السائدة التي كانت سمتها الشفوية، وثقافيا (التقليدية) لم تكن هي إلا بداية ثقافتنا الحديثة وهذا وجه الأشكال الأول الذي يحدد خطوات الباحث السائرة فوق رمال ثقافة الصحراء الليبية.

ومن هنا يجئ الارتباط الذي يقوم به الفيتوري في بحثه ( في المسألة الشعرية الليبية) بين الحداثة الشعرية والهوية باعتبارهما وجهان لعملة واحدة (وجه جانيوس) أو كما يقول (فإن قارئ الحداثة الشعرية الليبية سيجد بدءاً أن ليبيا حدث حديث)(4) وبهذا يطرح سؤاله الإشكالي: رفيق حداثة هوية أم هوية حداثة؟ لنقرأ بعد ذلك أشكال التحولات في هذا السؤال المفارق من علاقة الكلاسيكي بالرومنطيقي والشعرية البكر المتجاوزة الأجيال وللزمن، مرورا بغنائية الفرد الجماعة وصولا إلى ما يسميه باروكية الشعر الباروكي وفي داخل حدود خطاطه الحداثة الشعرية تتشكل تضاريس رحلة الشعر الليبي في بحثه هن هويته وخصوصيته (الوهم) الذي لابد منه لكي يحقق المبدع ذاته الخاصة به، هذه الذات التي تضيع معالمها في وطن القبلي ما لم تقرأ في سياق تكامل تجارب مبدعيها ومراحلها المختلفة. فالحداثة ليست وجها صنميا واحدا وإنما هي حالة تفاعلية للفكر والثقافة (فالحداثة ليست متجانسة إلا ظاهريا فتاريخها يكشف تناقضاتها ونسبية وتغير مفاهيمها واختلاف وجهات النظر)(5)، والناقد يتناول وجوهها المختلفة بدءا من لحظتها البسيطة مع أحمد رفيق المهدوي متتابع تجلياتها في التواصل والانقطاع من خلال عدد من رموز التجربة الشعرية من أمثال الشعراء رجب الماجري شاعر الاستمرار والانقطاع الرومانتيكي الذي لم يصدر له أي ديوان حتى الآن!!/ على صدقي عبد القادر، الشاعر المتجاوز للمراحل والأساليب والأجيال الشعرية/ علي الرقيعي، الراحل في عنفوان تأسيس مشروعه الشعري/ محمد الشلطامي، أغنية الفقراء المجهضة/ الجيلاني طريبشان ومحمد الفقيه صالح، شعراء المنفى والغياب/ عاشور الطويبي وفرج العربي ومفتاح العماري شعراء القطيعة مع الذاكرة الشعرية.

ولمزيد من التدقيق والتمحيص لهذا المشهد الشامل يخصص الفيتوري مساحة للصوت الأنثوي داخل الحداثة الشعرية الليبية باعتبارها نزوة لكسر السياق الذكوري للكتابة الشعرية.

وبهذا فإن مشروع الحداثة في الشعر الليبي كما يطرحه كتاب (قصيدة الجنود..) تتعدد وجودها وأشكالها وأساليبها وهو تتخلق كأشجار مفردة تصنع الغابة، إنه المفرد بصيغة الجمع، حيث تتداخل التجارب والرؤى الشعرية والإنسانية في بحثها عن صوتها وهويتها الشعرية والإنسانية، إن الحداثة وفق هذا التصور هي حداثات تتجلى في الأسلوب والرؤية في كل تجربة شعرية على حدة، أو كما يقول (عز الدين المناصرة) * إنها (الحداثة) الفضاء المفتوح على الاحتمالات دائما!! وهو الفضاء الذي لا ينغلق في مقاييس وأطر محددة سابقة على إنتاج الأثر الإبداعي الذي بما يحمله من تسمية فهو مبتكر ومحدث.

هذا الفضاء المفتوح هو ما يدفع بالفيتوري إلى أن يدرس المسألة الشعرية في ليبيا من داخل خصوصيتها التاريخية الاجتماعية، تلييب الحداثة هي إحدى المهام التي يعمل عليها النص النقدي في كتاب (قصيدة الجنود)، وهو يتناولها في عمقها المركب (للكيان)، ويحفر في ذاكرة الواقع في مستوياته المتعددة للوصول إلى التخوم المشكلة لوجوه الحداثة الشعرية الليبية، بالرغم مما يكتنف البحث من صعوبات ليس أقلها غياب شروطه الأولية – المرجعيات – التي فيها وبها يتحقق للناقد القراءة والبحث والتحليل لواقع التجربة الشعرية في محطاتها المتعددة. فإنه يعمل وبجدية ومسئولية على البحث الدؤوب على مرجعيته الوطنية وتجلياتها المتنوعة في مختلف أشكال الفكر والحياة، مستعيرا من تعينات التاريخ الثقافي الاجتماعي مرجعية وأدوات بحثه (في المسالة الشعرية الليبية) الهوية/ الحداثة.

وهذه المرجعيات التي يستدعيها الناقد من (محمد زيتون) في سؤاله عن النهضة الليبية: هل هي موجودة؟ – إلى معنى الكيان – السؤال الهاجس عند (عبد الله القويري)، وتأصيل التجربة الشعرية في قصيدة البيت الواحد عند (خليفة التليسي) ومنهج الريبة لدى (نجيب الحصادي). هذه المرجعيات للتأسيس النقدي التي يقرأ بها الفيتوري المسالة الشعرية في ليبيا، تتسم بمغامرة منهجية تتعلق بتوظيف الجزئي لقراءة جزئية، بمعنى أكثر مباشرة فإن الدارس يقوم بتوظيف كافة الحقول الثقافية والفكرية المنتجة داخل التجربة الثقافية/ الاجتماعية في ليبيا، خلال مرحلة بناء وتأسيس الكيان الوطني، لقراءة أشكال التجربة الشعرية المرتبطة بشكل صميمي بمراحل تشكل هذا الكيان وصيرورة تحولاته، وفي هذا نرى التركيب الفسيفسائي لتشكل الهوية/ الحداثة، التي نجد مرجعيتها في هذا المقتبس من الشاعر سعيد المحروق (في هذه البطاح/ تسبقني الرياح/ تمضي بما كتبت) إنها شعرية التقاطع والتلاشي، شعرية موروثها تنشئه جديدها وكل جيل فيها يولد من رحم المستحيل، الانقطاع وغياب التراكم الاجتماعي/ الثقافي هي السمة الدالة على هوية الحداثة في هذه البقعة.

وإذا ما عرفنا أن التراث الشعري الذي يمثل الذاكرة الثقافية المكتوبة لم يتعد حتى بداية السبعينات 38 ديوانا شعرياً، وإن شاعراً رائداً (أحمد رفيق المهدوي) للتجربة الشعرية الحديثة لم تجمع أعماله في كتاب إلا بعد وفاته – جمعته لجنة الرفيقيات وحذفت منه وغيرت!! – وكذا الشاعر أحمد الشارف وإبراهيم الأسطى عم وغيرهم من شعراء المرحلة الأولى الذين جمع نتاجهم الشعري بعد وفاتهم، وشعراء المرحلة الثانية – الرومانتيكيين – رجب الماجري، محمود عبد المجيد المنتصر، سليمان تربح، وخليفة الغزواني. لم يصدر لهم أي ديوان يجمع أعمالهم الشعرية أما شعراء المراحل التالية فبين الصمت والغياب والانقطاع ضاعت معالم تشكل وتأصيل تجاربهم الشعرية.

إنها الهوية وحداثة التاريخ الذي تصنعه الجغرافيا، جغرافيا الصحراء ورياح القبلي، حيث لا أثر ولا أثار. وبذا فإن مغامرة التأسي على الغياب والانقطاع والصمت تقلق المنهجية العلمية في سؤالها عن الحقيقة التي (لا يكفي أن نقولها بل ينبغي أن نكون فيها)(6)، والسؤال الذي يطرح نفسه هو كيف نؤسس لمعرفة في غياب فعاليتها وهو هنا غياب لحظاتها المتعددة من تجربة الحداثة في الشعر الليبي، بمعنى أوضح كيف نقرأ تأثير تجربة شعرية جماعية أو فردية وهي خارج البنية الثقافية المفترض أن تتفاعل معها على مستوى الهامش على الأقل، وهل يمكن أن نقرأ تجربة الحداثة الشعرية في ليبيا في خصوصيتها الضيقة بدون أن نقرأ محيطها في الحداثة العربية وما شكل تأثرها وتفاعلها مع هذه التجربة.

إن كتاب (قصيدة الجنود) بيان الحداثة والهوية، يدعو عقلنا النقدي لمزيد من الحفر المعرفي وإلى أن نقف معه باحثين ومحللين ومؤصلين لواقع التجربة الشعرية، فهذا الكتاب يمثل نقطة البدء بكل جراءته وبما يحمله من قلق وتوتر في التحليل وصياغة المفاهيم، وهذه القراءة ما هي إلا تحية لجهد الباحث ودعوة للقراءة النقدية الجماعية حيث التفاعل والحوار المستمر بين ثقافة النص وثقافة القارئ ** اللذان بهما يتفتح الفكر ويتعمق الوعي.


هوامش::

1- إدريس المسماري: حدود القراءة، الدار الجماهيرية، سنة 1998م الطبعة الأولى. ص91.

2- أحمد الفيتوري: قصيدة الجنود، في المسألة الشعرية الليبية، الدار الجماهيرية، سنة 2000و ص13.

3- مرجع سبق ذكره.

4- مرجع سبق ذكره.

5- اعتبارات نظرية لتحديد مفهوم الحداثة، محمد برادة، مجلة الفصول، المجلد الرايع، العدد الثالث، 1984م، ص12.

* بتصرف من كتاب (جمرة النص الشعري)، عز الدين المناصرة.

** بتصرف من مجلة (علامات)، أسرة التحرير.

مجلة الفصول الأربعة- تصدر عن رابطة الأدباء والكتاب الليبيين- السنة: 24- العدد: 99- التاريخ: 4/2002- تصدر كل ثلاثة أشهر

مقالات ذات علاقة

المحيطُ لا ينتظرُ مرتين

يونس شعبان الفنادي

العنف ضد المرأة في الرواية النسويّة الليبيّة.. رواية “قوارير خاوية” نموذجاً

المشرف العام

“العقيد” لكوثر الجهمي.. في هجاء الثورات والاستبداد على السواء!

المشرف العام

اترك تعليق