طيوب عربية

“حارس الموتى” المرشحة للبوكر تكشف وجه الحرب البشع

محيط

تشوه الحرب كل شيء.. النفس القروية البسيطة.. الحب والمبادئ مهما حاولت تحييدها أو دافعت عن أسباب سقوطها. لا تفرق الحرب بين المارة ولا المقاتلين وراء المتاريس ولا الآمنين في بيوتهم. هي امتحان يفشل فيه الجميع مهما حاولوا النأي بأنفسهم عنه والتنقل على هوامشه. ورواية (حارس الموتى) التي ينقلك مؤلفها اللبناني جورج يرق بين مشاهد الموت الحسي والمعنوي تختصر كل ذلك.

تبدأ الرواية بصدفة عابرة يعتبرها البطل “مسؤولة عما يعانيه”. هو عابر الليطاني القروي البسيط الذي كما غيره الكثير من الشبان في بداية الحرب الأهلية شاء قدره أن يكون في المكان الخطأ والزمان الخطأ لتخرج الأحداث بعد ذلك من بين يديه وتقوده كما الكثيرين غيره بعيدا عن بيوتهم وقراهم وعائلاتهم وتحولهم وقودا لمعارك دامت حتى أضحت روتينا.

يتناول يرق في روايته عن طبقة من المقاتلين كانت مجرد عدد لا يذكرها أحد ولا يتوقف عندها أحد ولم يحاسبها أحد. طبقة كان همها تأمين المأوى والطعام والدخل أو الانتفاع إلى أقصى الحدود فهي لم تدخل الحرب للنضال أو دفاعا عن أفكار أو أرض أو عقيدة رغم ما كانت تزخر به الحرب اللبنانية والفترة التي نشبت فيها من شعارات وصراعات بين المبادئ المختلفة والتوجهات والسياسات الداخلية والإقليمية وحتى الدينية.

اختار يرق ما يمكن وصفه “بأعواد ثقاب” الحرب ليكونوا شخصيات روايته الذين كانوا الوسيلة وشهدوا من الحرب أسوأ ما فيها وأخرجت الحرب أسوأ ما فيهم.

جل ما كان يريده عابر الليطاني في قريته الوادعة أن يصطاد طائر المطوق لكن دوامة الطائفية والعصبية قادته إلى رحلة أدخلته الحرب لسبب نفعي تماما رافقه طيلة رحلته فيها بعد ذلك وهو توفير المأوى والطعام.

“الأعمار ملك صاحبها تعالى .. ولا أحد يموت قبل ساعته” قولان تلفظ بهما عابر في بداية الرواية وتابع مدافعا عن قضيته وصورته أمام القارئ “أكررهما على غرار الكثير من الناس خصوصا أولئك الذين يرفضون الحرب والقتل لكنهم مرغمون على العيش في ظلالهما على قاعدة مكره أخوك لا بطل.”

رحلة استكشاف عابر القروي للمدينة التي تأكلها الحرب تعيد القارئ الذي عاشها إلى مشاهد مختلفة وتستمتع بمرافقته خلال النهار عند “عالم الأرصفة.. المزيج من المتناقضات الصارخة” حتى يحل الليل “عدو الغرباء” فتتنقل معه قلقا بين السيارات والملاجئ ومداخل الأبنية.

لا يمر الربع الأول من الرواية إلا ويكون عابر قد اختار الطريق الأسهل للنجاة خلال أي حرب .. أن يكون جزءا منها .. صيادا لا طيرا. من اللحظة الأولى لدخوله الميليشيا يبدأ عابر بتبرير لنفسه “أتدرب على القنص لكي أتفادى القتل .. ولأن علي فعل ذلك حتى لا أعود متشردا.”

هي أمور ربما لا تقنع من عاش الحرب وقرأ عنها. فالخوف من التشرد لا يكفي لتبرير ارتكاب فعل المشاركة في الحرب.

على مر الصفحات التالية تتوالى اللوحات التي تتكرر في يوميات الحرب ورواية فظاعاتها من فظاعة القناصين .. بعضها مألوف للقارئ اللبناني وبعضها أقل بكثير مما سمعه وشاهده.  انغماس المقاتلين في العبث والنفعية التي لا ترحم الراهبات والمستشفيات فضلا عن مثلث المخدرات والجنس والدم تأخذك في سرد يصبح مملا بعض الشيء لمن ألف هذه الصور واطلع على أدب الحرب اللبنانية.

في منتصف الرواية تستوقف القارئ اللبناني على وجه الخصوص وربما كل من شهد حربا عبارة يختم فيها فصلا يروي قمة عبث المقاتلين “كان الضجر أحد أسباب استمرار الحرب” .. ستصدمه الكلمات..  وربما يتوقف عندها كثيرا ويقلب في لحظات صفحات دفاتر الذكريات السياسية وكل أرشيف ذاكرته عن الحرب الأهلية لبحثا عن ما يسند هذه الفكرة التي لم تخطر على بال من قبل ولو كانت صحيحة لفاقت كل وحشية.

لكنك تعود لتدرك وتطمئن نفسك أن الضجر قد يطيل معركة لكنه لا يطيل حربا وأن ما جرى طيلة سنوات طويلة كان أكثر تشعبا وتعقيدا من مجرد ضجر مقاتلين حشاشين أو ثملين وراء متراس.

في الثلث الأخير نصل مع عابر إلى محطته الأهم في براد الموتى (ثلاجة المشرحة) حيث يتعلم “المهنة” وحيث يبرع الكاتب في الوصف والتفصيل إلى دفع القارئ إلى التقزز وترك الرواية لوقت قصير قبل العودة إليها سريعا.

ما يشعر به القارئ من تقزز ليس حيال مشاهد الموت فقط بل من عابر الذي كان من المفترض أن يكون “حارس الموتى” لكنهم كانوا على ما يبدو حراسه كما قال “كان الموتى يحمونني” بصمتهم وسكوتهم عن انتفاعه منهم وسرقتهم وانتهاك حرمتهم وحتى اشتهائهم.

نهاية الرواية لا تبدو مفاجئة.. وربما من سخرية القدر أن يكون المشهد الأخير مطابقا تقريبا للمشهد الأول.. الضحية المصابة النازفة التي تراقب العابرين بلا حول أو قوة.. تظن لوهلة أن عابر سيعود لبراد الموتى الذي تماهى معه ومع زائريه قبل أن تنبهك لهجة المخاطب أنه عاش ليروي.

(حارس الموتى) رواية لا تشبه ما سبقها رغم تكرار تناول الحرب الأهلية في الأدب اللبناني وغيره وهي تقع في 304 صفحات من القطع الصغير ويستخدم فيها الكاتب لغة بسيطة سلسة تتخللها بعض تعابير العامية اللبنانية المستخدمة في مكانها المناسب ويصحبها دوما توضيح يرق لمعناها.

صدرت الرواية عن دار (منشورات ضفاف) ووصلت للقائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية (بوكر) التي ستعلن في 26 أبريل نيسان في أبوظبي عشية افتتاح معرض أبوظبي الدولي للكتاب.

وتضم القائمة خمسة أعمال أخرى بجانب الرواية. وتبلغ قيمة الجائزة المالية 50 ألف دولار أمريكي

مقالات ذات علاقة

الموت يغيّب مترجم مائة عام من العزلة

مهند سليمان

الكورونا العزاء

آكد الجبوري (العراق)

غزو الشمس – خيال علمى

المشرف العام

اترك تعليق