المقالة

جديد الرواية الليبية

 

عبر استعادة لطفولة شديدة الغنى بدأت أحداثها الأولى في حي من أشهر الأحياء الشعبية بمدينة طرابلس هو حي الظهرة المعروف بنسيجه السكاني المتنوع عرقياً والمرتبط وجدانياً، وبلغت نضجها البدني والفكري في مدينة بنغازي وفي حي لا يقل عن ذلك شعبية أفضت في كلتا المدينتين إلى تجربة حياتية لها طعمها وعمق تمثلها، جاءت رواية نواح الريق للكاتب المتميز محمد الأصفر، فضَّل أن ينشرها على نفقته الخاصة بعد أن أصدر مجموعته القصصية حجر رشيد وروايته المداسة وتقود ني نجمة وبذلك يكون إسهام هذا الكاتب في المدونة الأدبية الليبية قد بلغ حتى الآن أربعة كتب كرسها بالكامل للإبداع وحتما على كل من يتابع رحلة الكتابة على نحو من الأنحاء أن يرصدها ما وسعه الرصد ولو بمثل هذا الشكل السريع الذي نفعله.

ومن الناحية العملية الصرفة أو المبدئية إن شئنا، نحن أمام مثقف أصرَّ على أن يكون شيئاً من الحياة، شيئاً لابد أن يسلَّم به الآخرون ويتعاملون معه فاختار طريق الكتابة الإبداعية ليقول ما يجب أن يقول، وهو لم يشأ أن يرتضي الوقوف أمام أبواب الناشرين حين توفر لديه ما يستحق النشر بل على العكس من ذلك فضَّل أن يخوض تجربته معوَّلاً على مجهوده الشخصي، وهو لم يفعل ذلك من أجل أن يقول للآخرين أنه قد رهن حُلي الزوجة أو قوت الأولاد وكونه فقط أصرَّ على تقديم ما لديه من إبداع إسهاماً في المدونة وتوكيداً للحضور ومن هذه الناحية ينبغي أن يتنزل هذا الموقف المنزلة التي يستحقها على درب المبادرة الشخصية والوعي الحقيقي لدرس التاريخ، ذلك الذي يعلمنا أن طريق المجد ليس مفروشاً بالورود لكنه مليء بالأشواك والصعوبات من كل اتجاه وأن الرجال وحدهم هم الذين يدكون هذه الأشواك بأرجلهم غير عابئين بما ينبعث منها من الألم حتى يتحقق المطلوب ويتيسر بلوغ الهدف ومن خلال ما يرصده القلم المقتدر والخيال الخصب والذاكرة المتوثبة والحميمية الجميلة التي تستوعب الرموز الكبار وكذا رفاق الطفولة.

محمد الأصفر يعيد لقرَّائه هذه الرحلة الحياتية العريضة التي عاشتها أجيال من الليبيين في مدينة بنغازي على نحو مركزي وهي تعيش العادي في مسيرة الحياة والناس وكذا موقف الناس إزاء هذه الرحلة دون أن يهمل مدناً أخرى من الألم الذي أمكن أن يرحل باتجاهه، وهي حياة تحمل الشيء ونقيضه، كالإيمان والإلحاد والجوع والتخمة، الفشل والنجاح، التعاون والأنانية، الكرم والبخل، الاعتزاز بالذات والوقوف أمامها بزهو وقناعة إلى جانب الاختصام معها والتحامل عليها في أكثر من موقع والحركة دائماً تبدأ من أحياء بنغازي لتعود مرة أخرى إلى طرابلس حيث حي الظهرة الذي خرج منه ذات يوم ولم يستطع أن يعيده إلى الحضور الحقيقي مرة أخرى غير أنه لم يتخلَّ عنه ولم يرضَ بالغير الذي وصل إليه، هي رحلة جميلة يستدعيها قلم الأصفر بمقدرة فائقة وبساطة محببة وتجرد غير مفتعل.فيأتي النص ممتلئاً كل الامتلاء بحياة الناس في بنغازي وأحياناً المترابطة وعلاقاتها الإنسانية المشدودة إلى التاريخ الثقافي بقوة ماضيه القريب وحاضره المتشابك ارتباط يصنع من الحياة اليومية رواية لكل الناس دون أن يهمل دور المثقف وقدرته على التمرد والإصرار على تحقيق ذاته ولو برفض القيود ” الاجتماعية البسيطة التي تصرُّ على وسم الحياة بميسم معين، في حين يصرُّ الذين يعنيهم الأمر ويقلقهم هذا التوجه على ممارسة الموقف الرافض أو على الأقل المتمرد ومن أبسط الأشياء وأقربها إلى التجربة اليومية.

صحيح أن النص بقدر ما تظهر فيه الحميمية ويتأكد في ثناياه التوهج من حيث مواقف الناس وتفاعل الكاتب إزاء بنغازي لا يبدو كذلك وهو يحاول استعادة الظهرة على سبيل المثال بحيث لا يصعب القول أن عودة الكاتب كثيراً ما تكون متكلفة أو غير حاضرة في الوجدان كما أشرنا ربما لأن الظهرة من الأساس قد اختفت وحلت محلها عوالم أخرى أملثها هجرة الناس ورحيلهم منذ أن داهمتها الكسارات في ستينيات القرن الماضي بعامل التطور العمراني، ولكن العالم القديم ذاته لا تتحقق استعادة ولو بواسطة الحكي الذي يحقق فيه محمد الأصفر مقدرة ملحوظة وتبليغاً ناجحاً عن الكثير من المواجع والكثير من الهموم والكثير من المشاعر تجاه الحياة والناس.

رواية الأصفر هذه لا تستدعي الذاكرة من أجل الهروب من الحاضر، ولا تقف أمام الأمكنة وقوف النائم على الطلل، ولكنها تفعل ما فعلت من أجل الحاضر من أجل تفعيل دور الرمز الثقافي ومثله الوطن في عالم يسوده الإقصاء ويشيع فيه التغييب، وهي من هذا الجانب ولو لم يكن لها غيره تستحق الاحتفاء فضـلاً عـن القـراءة الواعية على أكثر من صعيد.

مقالات ذات علاقة

حركة الهيبيين

أحمد معيوف

الشاعر والكتاب

المشرف العام

طَـاسة مُـرّة

عبدالرحمن جماعة

اترك تعليق