كتاب تقديس المدنس.
طيوب عربية

“تقديس المدنس” ظاهرة فنية في الشعر العربي المعاصر

أحمد رجب

كتاب تقديس المدنس.
كتاب تقديس المدنس.
الصورة: الشبكة.

يبدأ الدكتور رائد الصّبح كتابه “تقديس المدنس في الشعر العربي المعاصر” الصادر مؤخرا عن المركز الثقافي العربي بالمغرب، بتفسير مفهومه لمصطلح “تقديس المدنّس” بأنه كل خرق لمقدس ديني أو عرف اجتماعي بدءا من التقديس والتمجيد أو التضامن وانتهاء بالتسويغ لأي سلوك قد يكون مدنسا، كذلك فمصطلح المدنس عنده لم يقتصر فقط على ما عده الجانب الديني مدنسا، بل يشمل  المدنس في كل المواضعات التاريخية أو الفنية والتاريخية والأسطورية.

ويشمل تقديس المدنس كل ما تتطلبه حرية التعبير والتفكير من تمرد ورفض وخروج على الأعراف، وهي ظواهر عرفها الشعر العربي منذ عصر الجاهلية، بدءا من امرىء القيس ومغامراته الماجنة، كما تعد ظاهرة الشعراء الصعاليك مثالا جليا على خرق الثابت والتمرد على السائد. وفي العصر العباسي تمرد أبو تمام بالخروج على عمود الشعر العربي، وأبو نواس برفض قيم البداوة. وحديثا دأب الشعراء على تقليص المسافة الشاسعة بين المقدس/ المحرم وبين الإنسان/ الحرية.

كما تأثر الشعراء المعاصرون بالتجارب الشعرية الغربية فرفضوا القيود الاجتماعية أو الفنية التي يمكن أن تكبل طاقاتهم الإبداعية، خاصة أن لغة الشعر تمثل كسرا لقواعد اللغة العادية.

وما يميز الظاهرة في العصر الحديث عن العصور القديمة أنها كانت مجرد رفض ورد فعل انفعالي، وتعبير عن حالة تمرد سلبي لم يبلور تحولا فنيا، بينما في العصر الحديث دشن التمرد ثورة فنية تمثلت في ولادة الشعر الحر. ومن مسوغات هذا التمرد الفني هاجس الاختلاف الذي يعتبر هاجسا رئيسا عند الذات المبدعة في سعيها نحو التفرد، كذلك بحث الشاعر المعاصر عن أداة فنية جديدة. وقد تلمس الباحث هذه الظاهرة عند شاعرين يشتركان في العديد من القيم الذاتية والفنية والموضوعية، وهما بدر شاكر السياب وأمل دنقل.

الاحتفاء بالعصاة

يسعى الشعراء في توظيفهم لتقنية تقديس المدنس إلى اختيار المادة المناسبة لتوظيف تلك التقنية، والتي تشف عن قيم انسانية التقطتها رؤيتهم الشعرية، ومنها الاحتفاء بالعصاة والمتمردين وأولهم الشيطان، فالرؤية الدينية أبدت النظرة الاجتماعية المتداولة عن إبليس المارق، لكن أمل دنقل يأتي برؤية مخالفة فيرى في موقف إبليس ممارسة للحرية: (المجد للشيطان معبود الرياح / من قال لا في وجه من قالوا نعم/ من علم الإنسان تمزيق العدم)، فأمل دنقل يلقي الضوء في قصيدته على الموقف الرافض لإبليس ليستخرج منه قيمة إنسانية هي الحرية، كونه أول من مارسها ودفع ثمنها بالطرد من رحمة الله.

ويقابل الاحتفاء بالعصاة تشويه الأبطال والرموز، فيقوم الشاعر بتكسير بنية الرؤية المألوفة ويستحضر الرموز بدلالات جديدة تكسر أفق التوقع، فيستحضر أمل دنقل شخصية سبارتاكوس، محرر العبيد الذي غدا رمزا للثورة، لكنه في وصاياه يكون ابنا لعصره وليس للرمز فيقول (وإن رأيتم طفلي الذي تركته على ذراعها بلا ذراع / فعلموه الانحناء/ علموه الانحناء).

البعد السيميائي القار في الأذهان لسبارتاكوس يجعل المتلقي منتظرا لوصايا ثورية، لكن الشاعر يخالف المتوقع منتجا دلالات جديدة تمعن في تدنيس الرمز الثوري، ويلاحظ أن أمل دنقل لا يتقيد بسياق الرمز، بل يفصله حسب حاجته، ويخضعه لمتطلبات موضوعه.

ومن المظاهر السائدة لتلك التقنية التضامن مع الطبقات الاجتماعية الأدنى، كما فعل السياب في قصيدته “المومس العمياء” حيث يصور ما يغيب عن أذهان الزناة، الذين يعافون جسد العمياء (لا تتركوني يا سكارى/ للموت جوعا / بعد موتي – ميتة الأحياء – عارا )، كذلك في قصيدة “المبغى”، يعبر السياب عن رفضه للواقع المتردي لبغداد بتدنيس رمزيتها في التاريخ، فيصورها بالمبغى.

التباس المفارقة

حضر مصطلح تقديس المدنس في الشعر كممارسة إبداعية ولم يحضر كتقنية تعبيرية، وذلك لتداخل تلك الظاهرة بظواهر أسلوبية عامة مثل المفارقة والسخرية والتضاد. وهي مصطلحات فضفاضة تتداخل مع مصطلحات بلاغية عديدة، فالمفارقة مثلا وهي بنية لغوية مراوغة، ومتعددة الدلالات، وفقا لوعي القارىء، لكن الشاعر يصنعها ابتغاء لغاية جمالية، فأمل دنقل في قصيدته “بكائية الليل والظهيرة” يؤسس للمفارقة ابتداء من العنوان، ففي القصيدة (يا آخر الدقات / قولي لنا من مات؟ / كي نحتسي دمه /  ونختم السهرات / بلحمه نقتات).

هنا العنوان يمارس العنوان واضح القصدية تضليلا ومراوغة ليؤسس للمفارقة الصادمة للمتلقي بين دلالتي العنوان والمضمون. ومكمن المفارقة يتضح من مقطع آخر (تبكي المرأة الأفعى على كتف العشيق / وتستزيد من البكائيات، تلقم صدرها العاري يديه / لعله يبني بها بعد الحداد) فالمرأة الأفعى تتخذ من دموعها وسيلة لنيل مبتغاها، فالدموع لم تكن تعبيرا عن الحزن بل وسيلة لنيل غاية وهنا مكمن المفارقة.

السياب أيضا استغل المفارقة في قصائد كثيرة منها المومس العمياء (ويح العراق / أكان عدلا فيه أنك تدفعين / سهاد مقلتيك الضريرة / ثمنا لملء يديك زيتا من منابعه الغزيرة / كي يثمر المصباح بالنور الذي لا تبصرين) فالمفارقة مركبة، إذ هي في منابع الزيت، وتريد القليل منه لإضاءة مصباح لا تبصر نوره.

ويرى الباحث أن مفهوم المفارقة التبس بمفهوم تقديس المدنس، رغم اتساع البون بينهما، فالمفارقة تقول شيئا وتعني غيره، فهي تهتم باللغة وتراكيبها، بينما تقديس المدنس نهج قصدي يتلاعب بمعان موروثة ثابتة، فهو يتعامل مع الفكرة والمعنى. فمثلا قصيدة أمل دنقل “مقابلة خاصة مع ابن نوح” يعدها أغلب من تناولوها من النقاد مثالا للمفارقة، بينما يرى رائد الصّبح فيها مثالا واضحا لتقديس المدنس عمد إلى خرق كل عناصر مشهد الطوفان المتعارف عليه في الموروث الديني.

كذلك غاب مصطلح تقديس المدنس عن نقاد بدر شاكر السياب، فلم ينتبهوا إلا إلى المفارقات في قصائده وخصوصا المومس العمياء، بالرغم من أن المفارقة ظاهرة عامة بينما تقديس المدنس شديدة الخصوصية والعمق.

____________________

نشر بموقع MEO.

مقالات ذات علاقة

الأغنيات المهددة! *

إشبيليا الجبوري (العراق)

وجوه الفلسطينيين كظيمةٌ مسودةٌ

المشرف العام

التّداوي من الكآبة بالكتابة

المشرف العام

اترك تعليق