المقالة

الواقع الليبي وتداعياته على الأداء الأكاديمي

إبراهيم أنيس محمد الكاسح

يعصف بليبيا واقع سياسي مأزوم؛ أفرز ارتدادات سيئة على جوانب الحياة كلها: الأمنية والاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية العلمية، همّنا في هذه المناسبة. وأصل المشكلة، ومصدر هذا التردي الذي طال الجوانب المذكورة سلفاً، التنافر والتشظي والعدائية السياسية التي عبّرت عن نفسها في أساليب عنيفة احترابية، بدل أن تسلك الدروب، وتوظّف السياقات التي تضبط الاختلاف والتباين، وتمنحه فرصة أن يكون حالة إيجابية وبنّاءة في نظم المجتمعات.

التباين سمة طبيعية، بل صحية في بنية أي مجتمع، ونجد حضور هذه السمة، وجلاء كمونها حتى في أبسط التكوينات الاجتماعية، وأصغرها عدداً، وأقلها تنوعاً؛ فالأصل انتفاء التطابق المطلق، والمتمم لهذا الأصل، أن تجنح الفطر السوية إلى إيجاد وتثبيت صيغ تنظّم هذا التنوع، وتؤطر هذا الاختلاف؛ بحيث يفضي إلى قيم بنّاءة، تضيف إلى مسلك الآدمي الرامي إلى تكريس أوضاع حياتية إيجابية، تتقلّص فيها مواطن القلق، وتتنامى فيها فرص تلبية الطموح البشري نحو الأفضل.

يطغى التذمر والاستياء في المجتمع الليبي؛ بسبب الضغط الكبير الذي أوجدته ارتدادات الأزمة السياسية على الجانبين الأمني والاقتصادي، وهذا طبيعي، من جهة أن آثار السوء الأمني والاقتصادي تطال أغلب الناس، وتصيب عدداً كبيراً منهم؛ لالتصاق هذين الجانبين بالحاجات الحيوية والمباشرة للناس في أي مجتمع، ومن جهة أخرى؛ لأن الحاجة إلى الغطاء الأمني في المجتمع، وكذا النزوع الطبيعي إلى إشباع الحاجات العضوية المعيشية يظلان الهاجس الملح على الإنسان، والأكثر بروزاً في حالة العجز عن تأمين هذه المطالب الحيوية؛ فيعلو صوت المرتجف والجائع بدرجات أعلى بكثير من صوت غيره.

لكن، اعترافنا بأهمية الحاجتين الأمنية والاقتصادية، وإدراكنا لحجم ضغط هذين المطلبين، لا ينبغي أن يدرأ عنا السوء الذي يصيب الجانب العلمي والثقافي، ويطالهما في تمفصلات نظامهما البنائي.

تحتاج أية مؤسسة أكاديمية حيوية ونشطة منظومة من الشروط العضوية  تفرضها ضرورات الأداء النوعي، وهي:
1 ـ تمويل كاف، يلبي متطلبات العملية الأكاديمية.
2 ـ أجواء أمنية وسياسية مستقرة، تبعد المؤسسة الأكاديمية عن أن تنخرط في مسلك استقطاب يضرّ بحياديتها، ويشوش على غاياتها العلمية.
3 ـ قابلية مناسبة للحركية المعرفية؛ باعتبار أن اقتصاد المعرفة، وسياسات المثاقفة، تحتم شرط التواصل والاطّلاع، ومصاحبة الحركية المعرفية المتحوّلة بإيقاع سريع.
4ـ الفرز القيمي، القاضي بالتمكين لسياقات التنافس والمغالبة المعرفية التي تحرّكها نزعة ذاتية  أصيلة، تستهدف المتعالي في الحقل المعرفي، وتستنكف عن التسليم باستئتار ذوات أخرى بمكاسب حيازة المشتهى.

إدراكنا أن الأكاديمي إنسان تحوطه خصوصية الهوية المؤسساتية،لا ينفي كونه منخرطا في النظام المجتمعي، ويطاله نصيب مما يطال أبناء المجتمع عموماً من متاعب الواقع وصور سوئه.

ولننظر الآن في الشروط العضوية التي تحف بالعملية الأكاديمية، وتوجه مطلب نجاحها؛ لنتلمّس تحققها في الحالة الأكاديمية الليبية اليوم.

نفترض أن توزيعاً عادلاً للميزانية تتمتع به الجامعات والمؤسسات الأكاديمية، يأخذ في الاعتبار حجم المؤسسة، ومن ثم، متطلبات الإنفاق المناسبة؛ وتبعاً لذلك، ستكون جامعة طرابلس مؤشراً نستنطقه، ونسحب دلالاته على المؤسسات المشابهة في البلد.
1 – تعاني الجامعة شحّاً واضحاً في التغطيات المالية الواجبة؛ لتسيير العلمية الأكاديمية، ولإنفاذ برامج التعليم والمعرفة فيها، ولتوفير ظروف مناسبة لوجستية وواقعية تحوط العملية التعليمية، وتتأثر بها.
ولا يحتاج المراقب أن يلاحق وثائق الجامعة ومستنداتها الإدارية والمالية؛ ليقف على حجم تقلّص التغطيات المالية، وتراجع مبالغها، فذلك بادٍ في كل تفاصيل المؤسسة، منعكس على كل مكوّناتها، وآثاره جلية من خلال غياب التجهيزات المكتبية، وعجز الجامعة عن ضمان صدور المجلات العلمية في مواعيدها المضروبة في نظامها، وكذلك عجز الجامعة عن الاستمرار في نشر الكتب ومؤلفات الأساتذة، وغياب قدرتها على الوفاء بالتزاماتها تجاه حقوق الأساتذة في مرحلة الدراسات العليا؛ الأمر الذي يفضي إلى عزوف الأساتذة عن الاستمرار في القيام بواجباتهم، وليس ببعيد أثر غياب التغطيات المالية اللازمة على تشغيل المعامل والورش التدريبية، والأعمال الحقلية والميدانية، نظراً لحاجات كل هذه العناصر اللصيقة بالعملية الأكاديمية إلى متطلبات تشغيلية وتسييرية تتزود بها من ميزانية الجامعة.

ويصحب هذا الواقع اضمحلال فرص التحفيز المادي من جوائز ومكافآت سارية في الجامعات العالمية، وتفعل فعلها الإيجابي في تنشيط العطاء الأكاديمي. لقد أفرز هذا العجز التمويلي أثاراً خطيرة على مستوى أداء المؤسسة العلمي، وينعكس قصورا يتسرب في مفاصل منظومة العمل الأكاديمي، نتائجه غير محمودة على المدى المتوسط والبعيد؛ لأنه خلل تراكبي سرطاني التدرج، يتلف العناصر البانية للنظام العلمي في المؤسسة، وينخر مكوّناتها العميقة، لتستحيل مخرجات المؤسسة هزيلة لا تتسق مع متطلبات التنمية الوطنية، وتعجز عن الوفاء بمقتضاياتها، وتفقد أدنى الفرص لمجاراة تحوّلات المعرفة المتسارعة في حقولها المختلفة؛ الأمر الذي يفاقم الشرخ الحضاري بين ليبيا والأمم المقاربة، وتصير معالجة هذا الوضع عسيرة وبطيئة؛ بفعل تسربها التراكمي في البنى العميقة للمؤسسة الجامعية

2 – نأتي الآن على ثاني الشروط العضوية، وهو الشرط الأمني، فحالة التربص، وغياب الطمأنينة، واهتزاز الشعور بالأمن المجتمعي والمؤسساتي الذي يمكن أن يطال الأستاذ أو الطالب أو هياكل المؤسسة، يوجد حالة من القلق الهدّام؛ فيتلبّس الأستاذ إحساس ضاغط بضرورة ضبط ممارساته، وإخضاعها لموجبات حسابات أخرى غير الحسابات العلمية والأخلاقية؛ لأن مصادر المراقبة هذه المرة تختلف عن تلك التي عهدها سلفاً في مؤسسته أو في مؤسسات وفضاءات أخرى؛ ولإدراكه أن عدم سوية الوضع الأمني يؤسس لمحددات إيديولوجية وأمنية وجنائية جديدة، يفرزها الوضع الأمني المأزوم، فتتكاثر جهات وبؤر الملاحقة والتربص؛ وفوق ذلك، شعور بعدم توافر الحماية اللازمة، وأن الظهر مكشوف لأية ممارسة سلبية، تتطلب معالجتها، اللجوء إلى هذه الأجسام، والتوجه إلى مسيّريها؛ للخلاص من حبائلها، والأمر نفسه يطال الطالب الذي يصير حالة مُعزّرة لمشاعر القلق عندما تأتي عليه مضار الخلل الأمني، ويغذي حالة الفزع لدى الأستاذ، وهو يطّلع على حالته نموذجاً دالاً، ومؤشراً ناطقاً بترهل الوضع الأمني ومستوى خطورته.
لن يؤدي أستاذ قلق في مؤسسته أداء علمياً نوعياً يضيف لمدخلات المؤسسة، ويؤثر في مخرجاتها، ولن يجنح  أستاذ، هذه حالته، إلى إشباع نزعة الباحث فيه،

من جهة الجرأة، والمبادرة المعرفية المطلوبة في كل مؤسسة أكاديمية، طالما ظل محاطا بوضع أمني هش، يلقي بظلاله مباشرة وبكثافة على أدائه العلمي، ولن يتحمس الأستاذ الجامعي إلى إعمال الضوابط العلمية، ومعايير التقييم الموضوعية في بيئة أمنية رخوة؛ تشعره بحتمية ردّات الفعل والأفعال المضادة من أطراف أخرى تتصل بصورة مباشرة أو غير مباشرة بالعملية الأكاديمية.

يعزز خبر الاعتداء على مرافق الجامعة ليس فقط الشعور بالأسى على خسارة مادية تصيب الصالح العام، وإنما أيضاً ما أسميناه مشاعر القلق التي تتعاظم أمام توالي صور عجز النظام الرسمي الحائز على مشروعية إعمال القوة لحماية المجتمع لصالح تنامي قوة جهات فرضت حضورها بحكم حيازة القوة غير المشروعة.

3 – ثالث الشروط العضوية البانية لنجاعة المؤسسة الأكاديمية، القابلية للحركة المعرفية التي نجدها في الدول المستقرة والطبيعية، فمن الصفات الحيوية للمؤسسة الأكاديمية، الحركية والفاعلية المتجلية في سلوك ملاحقة المعرفة، وطلب مستجداتها، فالسمة التي تسم عالم المعرفة الأكاديمية أنه عالم مفتوح، متطور بكيفية متسارعة، ويتم تدوير حركيته في جغرافيا واسعة، تلاشت فيها المراكز التقليدية؛ فصار لزاماً على الباحث أن ينخرط في منظومة الحركة المعرفية الدولية، متفاعلاً: تأثيراً وتأثراً، وهو ما لن يتأتى إلا في سياق ظروف واقعية ملائمة، تسمح بالتنقل والمشاركة في أوضاع مناسبة، مع وجود تسهيلات في التواصل، وتحقيق مبدأ المشاركة لكل الأطراف. وإذا جئنا نختبر فرص ظفر الباحث الليبي بالاستفادة من هذا المطلب الحيوي، سنجد أن معوّقات كثيرة مادية ولوجستية ورسمية تحول بينه وبين الاستثمار في المعرفة العالمية، فالمشاركة في لقاءٍ علمي خارجي له من التعقيدات والمصاعب ما يدفع به إلى التفكير كثيراً و كثيراً جداً قبل الإقدام عليها، ما يفوق التفكير في إنجاح المشاركة العلمية التي قد يبادر إليها وبها.
ويرتب عجز الباحث عن مجاراة الحركية المعرفية العالمية، فجوات في بنائه المعرفي، وعجزاً عن الوفاء بمطلب مواكبة تطور المعرفة في مجاله، وانحساراً في قدرته على الإجابة عن آخر تحدياتها أمام الظواهر المتحوّلة التي تمثل موضوعات نشاطه الفكري؛ فتتكرّس هوة متصاعدة الحجم تبعد الباحث الليبي، والمؤسسة من ثم، عن سياق المنافسة المعرفية، وتتراجع إمكانات تقديم إضافته فيها، وسيقع أثر ذلك بطبيعة الحال، على منجزه المُنتظر منه، بما في ذلك ما يقدمه من معرفة لمن يتوجّه إليهم.

4-  لن تفضي حالة المغالبة السياسية والعسكرية في البلد إلى التمكين لسياقات صحية لتولي إدارة المرافق والمكونات الأكاديمية في الجامعة، ابتداء من أصغر وحدة (ما دون القسم العلمي)، وانتهاء بأعلى المستويات الإدارية والقيادية فيها؛ ذلك أن هذه المواقع ستدار من طرف شخصيات سُميت لها بحكم اعتبارات خارج أكاديمية؛ تقديراً لصلات أسرية أو جهوية، ولأخرى إيديولوجية، وسيؤخّر اعتبار الكفاءة العلمية إلى درجة متأخرة في تراتبية المعايير، ويفضي هذا الوضع إلى سطوة مهيمنة التقاطع البرغماتي التي تنتج مجموعات المصلحة، وتكتلات الولاء؛ الأمر الذي يضر بشرط الاحتكام إلى معايير الكفاءة من جهة في تقلّد المواقع الأكاديمية، وإلى تكريس روح سلبية، تُشعر الخارجين عن دوائر الارتباط المصلحي والنفعي، أن الرهان على الأكاديمي فقط غير مجدٍ لإشباع الطموح الطبيعي الساعي إلى التدرج في مراتب البحث عن الأفضل.

تداعيات الأزمة السياسية على المؤسسة الأكاديمية في ليبيا خطير للغاية، و يقض مضجع كل وطني واع يقدّر حجم الضرر الذي يتربص بها، ويدرك أن هذا الوضع يجعل الجامعة تتآكل في صمت، بخلاف الجوانب الواقعية الأخرى، التي تعلن عن وجعها بوضوح، وهو وجع عارض مع شدّته، و لكنه لا يوازي البتة الضرر الذي يصيب العملية الأكاديمية؛ لأنه يتسلل في مفاصلها الحيوية، موقعا خسائر معنوية طويلة الأمد، وغائرة الحضور، ومجهدة المعالجة.

_______________________

أستاذ جامعي- كلية الآداب- جامعة طرابلس.

نشر بموقع بوابة الوسط.

مقالات ذات علاقة

السور

عبدالرحمن جماعة

إلى قيس الهلالي

فاطمة غندور

تـطـور بنيـة السـلطة في زمن الثــورة

محمد محمد المفتي

اترك تعليق