المقالة

المعـرفة والتنمية

شَهِدَتْ البَشَرِيَّةُ في العُقُودِ الأخِيرَةِ تَحَوُّلاَتٍ كبيرةً وعميقةً في مَسَارَاتِ تطَوُّرهَا وانتقالها إلى مرحلة جديدة لم يكُن للبشريَّة بها سابقُ عَهْدٍ تُعْرَفُ بالمَعْلُومَاتيَّة وَالمَعْـرِفَةِ، وَقَدْ غَدَتْ هَذِهِ الأَخِيرَةُ فِي ظِلِّ هذه المرحلة أساسَ المَـوَارِدِ وَالقُوَّةِ والتَّقَدُّمِ، عَلَى اعْتِبَارِ أنَّ اكْتِسَابَ المَعْـرِفَةِ وتوظيفها يُعَدُّ السَّبِيلَ الأَمْثَلَ لتحقيق التنمية الإنسانيَّة في جميع مجالاتها، فالتنميةُ الإنسانيَّةُ في أحد معانيها هي سعيٌ مُتواصِلٌ لتحسين الحالة الآنيَّةِ للبشر من مَرْحَلَةٍ مُعيَّنَةٍ أقلَّ رُقيّاً إلى حَالاَتٍ أرقى على سُلَّمِ تَطَوُّر الوُجُـودِ البشري، تُؤَدِّي بِدَوْرِهَا إلى ارتقاء منظُومة اكتساب المعرفة.

كما أنَّ الاهتمام بالمعرفة قديمٌ قِـدَمَ الوُجُود البشري على سطح الأرض. وقد عَدَّهَا المُفكِّرُونَ قُوَّةً في حَدِّ ذاتها، يستطيعُ الإنسانُ بها أن يُواجه كافة المصاعب والاحتياجات والمشاكل التي تُواجِهُهُ وتعترضُ طريقهُ. ويرى البعضُ أنَّ: “المعرفة هي الإدراكُ والوعيُ وفهـمُ الحقائق أو اكتساب المعلومة عن طريق التجربة أو من خلال التأمل في طبيعة الأشياء، أو من خلال الاطلاع على تجارب الآخرين وقراءة استنتاجاتهم، فالمعرفة مرتبطة بالبديهة والبحث لاكتشاف المجهول وتطوير الذات.

ويُحدِّدُ قامُوسُ أوكسفورد المعرفة بأنَّها: أولا: الخبرات والمهارات المكتسبة من قبل شخص من خلال التجربة أو التعليم؛ الفهم النظري أو العملي لموضوع، ثانياً: مجُموعُ ما هُو معرُوفٌ في مجال مُعيَّنٍ؛ الحقائـق والمعلومـات، الوعي أو الخبرة التي اكتسبتهـا من الواقع أو من القراءة أو المُناقشة، ثالثاً: المُناقشاتُ الفلسـفيَّة في بـدايـة التـاريـخ مـع أفـلاطـون، حيثُ عُـرِّفت المعـرفة بأنَّها “الإيمـانُ الحقيقيُّ المُبرَّرُ”. غير أنَّهُ لا يُوجـدُ على ما يبدُو تعـريفٌ واحدٌ جامعٌ مانعٌ مُتفقٌ عليه للمعرفـة في الوَقـتِ الحَـاضِرِ.

وبِمَا أنَّ المَعـرِفَةَ كَانَتْ هِيَ أَسَاسُ السُّلُوك ومَصْدَرُ التَّعَامُلِ مَعَ الحَيَاةِ فَإِنَّ مُواجهة المشاكل المُختلفة يتمُّ عن طريق توظيف المعرفة للتغلب عليها. ومن هذا الجانب، ثَارَ الجَدَلُ حَوْلَ دور المعـرفة في تحقيق التنمية بشكل عـام، في مُقابل دور العـوامـل الثقافيَّةِ الأخـرى، وهُنَا نطـرحُ تسـاؤُلاً رئيسيّاً مفـادُهُ: هـل يُمكنُ أنْ تقُـوم المعـرفةُ بـدورٍ تنمـويٍّ؟ ومـا هي مـلامـحُ هـذا الدور في حـال وجُـوده؟.

حَقِيقَةً يَرَى بَعْضُ الخُبَرَاءِ أنَّ للتنمية أدواراً مُتعدِّدةً في عملية التنمية وليس دوراً واحداً، وهذه الأدوارُ تتباينُ بتبايُنِ مجالاتها، ولعلَّ أبرز هذه الأدوار: التسريعُ بعملية التنمية، الذي ينجُمُ عن التقدُّمِ التكنُولوجي الناتج عن التطور المعرفي في كافة فُرُوعه ومجالاته. ومن هذه الأدوار أيضاً: التغييرُ الثقافي والتنمية البشرية، فالتطوُّرُ المعرفيُّ في مجال المعلُومَاتِ قد أسهم بشكلٍ كبيرٍ في تفاعُل الثقافات، وفي إحداث نظرةِ مُراجعةٍ للمواريث الثقافية المُستندة على الخرافة، واستبدالها بالتفكير العلمي القائم على المنطق واستخدام العقل. كما أنَّ اكتساب القُدرة على التعامُل مع التكنولوجيات الحديثة يرتبطُ بإحداث تغيرات ثقافية خاصة في نظم التعليم والجوانب المُؤسَّسِيَّةِ المُرتبطة بِهَا، وهُو ما يعني حدُوثَ تطوُّراتٍ مُماثلةٍ في كافة الجوانب الأخرى بالمُجتمع، على اعتبار أنَّ نُظُمَ التعليم هي الرَّوافدُ الأساسيَّة التي تُنتجُ الكوادر المُختلفة لباقي قطاعات المُجتمع. أمَّا التنمية البشرية فَهِيَ تُعَدُّ من المهامِّ الأساسيَّة للمعرفة والمعلوماتية في عصر العولمة بَيْدَ أنَّ هذه التنمية تبدأُ بالتربية، وتمرُّ عبر إعادة صياغة علاقة الإنسان في مُحيطه ليكُون فاعلاً فيه، ويسعى للمُساهمة في بناء وطنه وتحقيق نهضته ورُقيهِ وتطـوُّرِهِ.

وفيما يتعلقُ بالنمُوذج التنموي العربي في هذا الجانب، يُلاحظُ بشكلٍ عام أنَّهُ لا يتمُّ توظيفُ الجانب المعرفي في تحقيق التنمية الإنسانيَّةِ، فعلى الرُّغم مثلاً من تزايُد عدد المُؤسَّسَاتِ التعليميَّة وتزايُد أعداد خريجيها في كافة المُستويات التعليمية إلاَّ أنَّ النظم التعليمية العربية ما تزالُ تحتاجُ إلى مزيدٍ من التطوير، ومُؤسَّساتنا التعليميَّة ما تزالُ خارج التصنيف العالمي إلاَّ فِيمَا نَدُرَ، وهُو ما ينعكسُ سلبياً على القطاعات الأخرى في المُجتمع. فالتنمية الإنسانية تتجاوزُ في جوهرها الأبعاد الماديَّة إلى الأبعاد المعنويَّة، وهي تشيرُ إلى تنمية الناس من خلال بناء القُدرات الإنسانيَّة عن طريق التنمية البشرية، على أن ينعكس عائدُ النمو على حياة الناس، وتكون هذه التنمية من قِبَلِهِمْ بواسطة المُشاركة بفاعليَّةٍ في التأثير على التطورات المُختلفة التي تشكلُ جوهر حياتهم. وبدُون ذلك كُله سنظلُّ ننتظرُ طويلاً لتحقيق تلك التنمية المنشودة، ممَّا يعني أنهُ لابُدَّ من بذل مزيدٍ من الجُهُود لجعل المعرفة أكثر مُساهمة في تحقيق التنمية الإنسانية في كافة المَجَالاَتِ.

 

مقالات ذات علاقة

دعوهم يحتفلون.. فاحتفالهم لن يعيد “جماهيرتهم”!!

خالد الجربوعي

ابتسمْ .. أنتَ في طرابلس!

جمعة بوكليب

من أبقار الجرمنت إلى مزيج برنت

منصور أبوشناف

اترك تعليق