النقد قراءات

الكوني… رائد أدب الصحراء

في رواية سأسُر بأمري لخلاني الفصول للروائي إبراهيم الكوني، نجد أن السرد قليل جداً، والوصف والحوار أقل منهُ، بينما استأثرت النبرة التي تبناها الروائي في جل رواياته على صفحات الرواية، فإذا هي مزيج من الأساطير والسحر والعادات والفلسفة والحكمة التي يؤمن بها أهل الصحراء والطقوس المهجورة، ويتوسع الكوني في ذلك ويطلق لقلمه العنان ليتناول كل ما يخطر بباله عن عالم الصحراء الذي اشتهر بفض أسراره وكشف الغازه ومخبوءاته.

غلاف رواية_سأسر بأمري

دعونا نقول مخبوءاته المادية والمعنوية، البادية والخافية، المرئية واللا مرئية في رواياته المتتالية، الأمر الذي رسّخهُ روائياً مختصاً في هذا الجانب الذي لم يُركز عليه كُتاب الرواية العرب كثيراً وكتب فيه روائيون قليلون جدا كان الروائي عبد الرحمان منيف أحدهم، الشئ الذي رسخهُ وجلب لهُ العديد من الجوائز وبوأهُ لأن يُكرم في أكثر من جامعة ومؤسسة علمية ومنتدى ثقافي، وكان لاحتفاء أوروبا التي عاش فيها الروائي وكتب جل رواياته – سويسرا تحديداً – الدور الكبير في بروزه وتقديمه كروائي عالمي امتاز أيضاً بغزارة انتاجه، ولعب إعجاب الأوربيين بمضامين سرديات الكوني الدور الأهم في تكريسه روائياً كبيراً يُزاحم ليس فقط على الجوائز المحلية والأقليمية بل على جائزة نوبل للآداب، إذ انجذب الكثير من القراء الأوربيين بعد ترجمة رواياته وأعجبوا أو حتى تماهوا في العوالم التي أجاد الروائي نسجها وخلقها على البياض، عوالم هي خليط من الخيال والواقع، السحري الخفي والعادي الظاهر، المرئي واللا مرئي، الحاضر والماضي، وحيثُ امتزجت الحكمة بالعبث، والجنون بالعقل، والموت بالحياة، في توليفات يحفظها الكوني عن ظهر قلب، كما لو أن كائنات ما ورائية تستوطن الصحراء وتحرس قداستها هي التي تُملي عليه ما يكتُب، كما لو أن تمائم وتعاويذ لا تُفتح ولا تُفض إلا لمن اصطفتهُ كائنات الصحراء الخفية واستأمنتهُ على كنوزها المخبوءة منذ القدم هي التي تزودهُ بمادة محكياته، ولربما تناول الكوني الصحراء ليس كصحراء عبارة عن رمل وقيظ وشح مياه ومُعادل واضح للعطش وحتى للموت بل تجاوز كونها  رمال مترامية الأطراف وكُثبان لا متناهية وبلا ضفاف، ليمنحها بُعداً فلسفياً سردياً ويُسبغ عليها من لغته المحكمة وأسلوبه المتماسك ويجعل منها كائناً خرافياً بمقدوره أن يبتلع العالم لو أراد، حيثُ تُمثل الصحراء لقاطنيها كل الوجود ولو أُبعدوا عنها لذبُلت أرواحهم في البُعد ولجف ماء الحياة في قلوبهم بعيداً عنها فللصحراء رغم كونها صحراء يحمل اسمها رهبة ويُحيل بلا مواربة إلى العطش والموت، للصحراء عُشاق ومُريدين يرون في اتساعها رحمة وفي صمتها مهابة وجلال وقداسة، وفي قيظها وفي نارها وحممها نُذُر ونبوءات وعبر ودروس ومآثر وبطولات وتواريخ يجللها الغموض والرهبة.

ثم إن هذه الرمزية العالية التي يكتب من خلالها الكوني ويشد أطرافها بتمهل وبهدوء النساك والمنقطعين للعبادة في صوامعهم ودورهم تستدعي استحضار الأساطير ولملمة شعت الحكمة المهجورة وجمع مآثر الأولين وتوظيف الواقع والزجّ بالفلسفة في الموضوع وخلق قالب حكائي يستوعب كل هذه العناصر التي تبدو للناظر وللوهلة الأولى متنافرة ومتباعدة ويتخللها أو يتنظمها كخيط شديد السبك متين الضفر في الوقت الذي يُحافظ فيه على ميزته كسرد مشوق يحمل في طياته عناصر الجذب والإثارة لدى المتلقي، والإثارة التي نعنيها بعيدة كل البُعد بالتأكيد عن الإثارة الهوليوودية، ولأن الرواية هي فن الأختلاق  اختلق الكوني عوالمه الغامضة وعثر على معادلته الخاصة، واكتشف سر تركيبته الشخصية وأصبح ومعهُ  القارئ أسيرا لها.

إذ هذا ما يقره بعض النقاد الذين درسوا أنتاج الكوني وقدموه للقارئ الغربي وهذا المناخ تحديداً الذي يجتهد الروائي العالمي في رسمه في كل رواياته هو سر الجاذبية ومفتاح رواياته التي تبدو أحياناً واقعية صرفة بينما هي لا تخلو من رموز وإيحاءات وأبعاد فلسفية ذات مغزى أبعد وأعمق مما هو ظاهر على القارئ الجاد التعامل معها واستنطاقها حتى يفوز بمتعة القراءة  كاملة ولا يترك تلك المهمة للنقاد والمختصين فللقارئ أيضاً كلمته التي لا شك في أن الروائي والأدب الليبي يعولان عليها كثيراً، يبقى أن نقول أن لكتابات الكوني الروائية نكهة خاصة يفضلها القراء، لا سيما القارئ الغربي الذي تسحره العوالم الخرافية التي يصنعها الكوني بقلمه وتشده الأساطير والموروثات والتصورات الماورائية التي يؤمن بها الشرق، خاصة إذا ما جاءت في إطار سردي حكائي إبداعي لا في إطار أكاديمي صارم لا يهم إلا المتخصصين، ولأنه يفتقد لهذه العوالم والفنتازيا في آدابه وفي موروثاته القريبة يُقبل القارئ الغربي على هذا الإنتاج ليشبع نهمه ويُطفئ عطشه، ولا نذهب بعيدا إذا ما قررنا أن الكوني يدخل ضمن دائرة كتاب الواقعية السحرية على مستوى العالم والتي تضم إلى جانبه ماركيز وبورخيس وغيره من الروائيين الذين لا تحضرني أسماءهم في زحمة وتسارع الكتابة – لعل أحدهم الألماني باتريك زوسكند صاحب رواية العطر -، فالكوني وكغيره ممن سبق ذكرهم يبرع في إنشاء وخلق عوالم خيالية واقعية بشخوصها وأزمانها وأمكنتها تمتزج فيها الحقيقة بالوهم، والموجود باللا موجود ويقف جنبا إلى جنب، الملموس والخفي، الظاهر والباطن، وأعتقد أن هذه الخلطة والوصفة هي عماد ما اصطُلح عل تسميته الواقعية السحرية التي وجدت في آداب الشعوب قبل أن يتم تأطيرها وقولبتها وحتى نسبها إلى أدب معين وهو الأدب اللاتيني. ولهذا نجد في متون الكوني إلى جانب الشخصيات البشرية، تلك التي من لحم ودم ويمكن تلمسها ورؤيتها، شخصيات الأسلاف الغابرين وأُخرى أسطورية وكائنات خفية كالجان والمردة والعرافين والدراويش الذين يظهروا ويختفوا بحسب حاجة القص لهم ويطلقون نبوءاتهم ويرسمون تعاويذهم ويكتبون تمائمهم قبل أن يذوبوا في السديم كأنهم لم يكونوا موجودين ومثلما أن أرواحهم حاضرة تكاد تـُلمس وتُرى رؤي العين يلفهم النسيان ويطويهم البُعد في الزمان والمكان.

وبناء عل ما مر ذكره يكتسب السؤال التالي مشروعيته، هل كان الكوني يستطيع كتابة كل هذا الكم من الروايات وبهذه الإجادة والزخم لو بقي ببلده الأصلي ليبيا حيثُ البيئة طاردة للإبداع وطامسه للمواهب وحيثُ الوسط لا يعتد بالأدب قدر اعتداده بلقمة العيش وانشغاله بأشياء أُخري يأتي الأدب في آخر ترتيبها؟

_________________

شر بموقا ليبيا المستقبل

مقالات ذات علاقة

رحلة القلم النسائي الليبي في كتاب القيادي

خلود الفلاح

قراءة في ديوان صلاة أخيرة، للشاعر حمزة الحاسي

المشرف العام

“في السجن والغربة” وعرس الدم الطويل

سالم العوكلي

اترك تعليق