قراءات

القصة وأشكال الكتابة الجديدة

تحاول هذه القراءة تلمس بعض الأحكام النقدية العامة المتعلقة بالأشكال (الجديدة) في كتابة القصة. وأنوه في البداية إلى أن هذه الأعمال، من خلال المفاهيم الحديثة ، تعتبر العمل الإبداعي عملا (ناقصا ) في ظل غياب أو تغييب دور ( القارئ –الناقد ) . فهي ترتكز أساسا على أن العمل الأدبي لا يتحقق إلا بالقراءة ، أي أن النص في انتظار (من) يقرؤه.

والقاريء لا يبحث عن معنى ، بل عن تفسير موجه للمعنى، ولذة العمل تكمن في أن الربط الذي ( يصنعه ) القارئ هو الذي يوهمه – عندما ينغمس في العمل – أنه يعيش أحداثا واقعية. إن القصة القصيرة والرواية هما من أكثر الأشكال الإبداعية التي تخلق من العالم ( الوهمي) عالما ( حقيقيا ) بصنعها شخصيات وأحداثا تملك من الثراء ما ينفي عنها صفة الوهم والتخييل.

وأكاد أقول ان القصة والرواية من أكثر الأشكال الأدبية حساسية في التعامل مع حركة المجتمعات والتغيرات التي ترافقه في تقدمه أو تخلفه.

من وجهة نظري هناك مميزات تشكل خصائص تفصل بين الشكل التقليدي والأشكال الجديدة في الكتابة القصصية نلخصها في الآتي:

أولا : إن الأشكال الجديدة وعبر وسائلها الفنية مثل ( تقطيع السرد أو تعدد الأصوات أو وجود الفراغات التي تتخلل النص ) إنما تهدف أساسا إلى تنبيه القاريء إلى أمرين هما :

1/ إن القصة ليست مادة استهلاكية ، إنها تحمل قدرا من الإمتاع الجمالي ، لكنها لا تطالب القاريء بالاستغراق الكامل في العمل . لذا يعمد الكاتب إلى إشعار القاريء ان الهدف الأساسي لا يكمن في العمل ( ذاته ولذاته ) ، بل فيما يمكن أن يستشف منه سواء أكان تصريحا أم تلميحا، ما تحكيه القصة أو ما تسكت عنه.

2/إن القصة لا تقدم معنى وحيدا هو بالضرورة ( المعنى الحقيقي والصادق ) .

إنها لا تقدم موعظة ، ولا تلخص حكمة ، او تلح على رأي واحد ، بل إن النص الجديد يكون مفتوحا ومليئا بالدلالات التي لا يمكن اختزالها في فكرة واحدة . هدفها تحويل القاريء من (منفعل ) الى ( فاعل ) .

إن القاريء ( يتواطأ ) مع القاص والروائي في صنع الأحداث وملء الفراغات وصولا إلى دلالات تومئ إليها القصة لكنها لا تفرضها.

لذلك لا تهتم بالبداية التقليدية ، بل تدفع القاريء ومنذ الجملة الأولى إلى تيار التجربة التي تحكيها . والنهاية غالبا ما تكون مفتوحة أو غامضة ، تترك القاريء في شك مما ستؤول إليه مصائر الشخصيات ، أو تطرح أمامه احتمالات عدة لنهايات عديدة . ثانيا : تسعى النصوص الجديدة إلى إهمال ( الراوي ) العالم بكل شيء والذي يتطفل على الأحداث وذلك باستخدام طرق سردية متنوعة ، وتعبر عن عالم محدود بالحقائق أو إدراك معرض للخطأ .

إضافة إلى التخلص من الأحكام ( القيمية ) بالحكم على الشخصيات ، سواء بالتعاطف معها أو إدانتها أو السخرية منها.

لذا تقلص دور الراوي الذي يطلق صفات مثل : ( طيب أو بائس أو أحمق ..) ولم تعد رؤية الواقع هي رؤية ( الراوي ) ، بل رؤية الشخصيات في القصة .

ثالثا : تراجع دور البطل أو الشخصية المحورية في القصة وانفسح المجال لتعدد الأصوات .

وانحسار دور ( البطل – النموذج ) أدى إلى ظهور أدوار أخرى قد تكون هي الموضوعات الرئيسية أو المحورية في العمل : كعناصر الطبيعة أو المواقف الفكرية.

رابعا : استخدام ما يسمى ( الخرافة النصية ) أي كتابة نص حديث على نسق نص قديم ، أو تقديم سلسلة من الأحداث هي نفسها غير واقعية أو كتابة نص داخل نص أو استخدام أسلوب تداخل الحكايات وتفرعها .

خامسا : مزج الحلم بالواقع ، وإزالة الحاجز بين الممكن والمستحيل ، فلا ندرك – كقراء – من أين يبدأ الواقع وأين ينتهي الحلم . بل قد يصل الأمر إلى عدم التيقن من وقوع الأحداث او تجسد الشخصيات ، وذلك بإثارة الشك في وجودها أصلا .

إن الواقع يقدم ( مصعدا ) و( متعاليا ) ليصل إلى شفافية الحلم ، أو تجسيد الحلم وتعينه بشكل يقترب كثيرا من الواقع الحسي .

إن استخدام لعبة الحلم يستند إلى كونه لا يقدم ( الحقيقة ) وإنما ( يتمثلها ) ، ولا يقدم الواقع كصورة منقولة حرفيا ، بل يقدم تشابكات هذا الواقع التي لا ترى تحت وطأة اليومي والعادي الذي قد يصل في صرامته وشراسته حد اليقين الذي لا يمكن الإفلات منه.

سادسا : اختفاء الترتيب الزمني المباشر والموضوعي ، وتقديم أزمنة مختلفة من ماض ومستقبل في آن واحد .

تنص القاعدة في القصة التقليدية على ارتباط الزمن الماضي بضمير المتكلم ، والزمن الحاضر بضمير المخاطب ، لذا يعمد الشكل الجديد إلى الانتقال من ضمير المتكلم إلى المخاطب أو الغائب ، ودمج الأزمنة في فقرة واحدة في بعض الأحيان ، دون الخضوع إلى قاعدة منطقية خالصة .

سابعا : تتعامل القصة التقليدية مع ( المونولوج ) أو الحوار الداخلي كترجمة لأفكار الشخصيات في عباراتها الخاصة مع الاحتفاظ بضمير الغائب في السرد ، أما تيار الوعي فيستند على استخدام تقنيات متعددة لنقل العالم الداخلي للشخصيات من خلال وسيلتين :

1/ ترجمة الوعي مباشرة بدون حضور الراوي .

2/ عدم ترجمة الكلام ولكن سرد مستوى ما قبل الكلام .

إلا أن عقبة اللغة تقف عائقا دون الانسياب الإيقاعي والتحليلي للوعي .لذا يعمد الكتاب إلى تسلسل الأفكار أو بعثرة الكلمات نفسها إلى شذرات مع إهمال علامات الترقيم من ( نقطة أو فاصلة أو شارحة أو أقواس ..) .

ثامنا : لم يعد المكان الهندسي ( بيت – نفق – قطار – مقهى –غرفة ..) مجرد إطار تدور فيه الأحداث ، بل أصبح مشاركا فيها . وكما يقول أحد النقاد : ليس هناك مكان غير متورط في الحدث .

إضافة إلى أن المكان يومئ إلى الوضع الاجتماعي للشخصيات ، بل قد يشكل جزءا من وعيها.

تاسعا : لا تستند أشكال الكتابة الجديدة إلى قيم مطلقة ، فالكشوفات العلمية هدمت إحساس البشر بمحدودية الكون أو ثبات المؤسسات الاجتماعية ، وكشف التحليل النفسي عن تعقد النفس البشرية وأظهر فوضى العقل الباطن واللاشعور ، أي أن النص الجديد يتحرك في منطقة انعدام اليقين .

عاشرا :إن ما تسعى إليه الكتابة الجديدة ليس بعث ( الانسجام ) في نفس القاريء بينه وبين العالم بل دفعه إلى أن يضع العالم كله بين قوسين كبيرين .

بل أن سعيها إلى جعل القاريء نفسه منقسما على ذاته – فور الانتهاء من القراءة – هو النجاح الذي تهدف إلى تأسيسه بتجذير وتعميق الوعي وفتح آفاق التساؤل سعيا للأجمل والأنقى .

مقالات ذات علاقة

الكوني والمرأة.. عدوانية وكره أم عشق وتوق

المشرف العام

(في الحَربِ والثقافة) والرؤية الثاقبة للأحداث

يونس شعبان الفنادي

ليبيا بعد الثورة.. قراءة جديدة لـ«بن شتوان»

محمد الأصفر

اترك تعليق