قصة

الـبـحــر

(إلى الصديق س. والمسكون بالبحر)

تكشف له البحر امراة. لعينيها كآبة المرافئ المهجورة عند الفجر.. كالموج يسترسل شعرها.. حاول ان يجد وصفا لنهديها النافرين ففشل.. فاكتفى يحدق في البحر.

يستلقي الخاطر مهموما.. مثقلا بالوجع والانكسار.. يستوطن القلب والذاكرة حديثها:

–        كيف انت؟

–        كالبحر..

–        في اية حالة؟

–        كالبحر..

–        البحر عظيم.. وديع وشرس.. صديق وفي وغادر..

–        كالبحر….

تخيل نفسه يضم بحرا إلى صدره.. انتشى بوشوشة الموج تفعم قلبه الجذب.. يطلق العنان لجسده فيغمره البحر.. يتوحدان.. يرتحلان إلى شواطئ منسية.. فتفعمهما رائحة العشب الندي والرمال الناعمة.. يستلقيان بإنشاء لذيذ مصغيين لرفرفة طيور البحر وهسهسة النخيل.. يحدق كلاهما في الآخر.

يقول للبحر: (أخافك)

يقول البحر: (أخافك)

يقول البحر: (احبك)

يقول البحر: (احبك)

يقول البحر: (لا تدعني وحيدا)

يقول البحر: (لا تدعني وحيدا)

يحتضنان بعضهما بشوق ويسافران في نشوة طويلة طويلة.

أفاق.. اكتشف ان البحر مسكون بحزن غريب.. وان مياهه راكدة معتمة..وان قلبه ينتحب مفجوعا لهول الغياب.. (كنت أعانق الشمس في عينيك والدفء.. وأحتكم إليها إذا اشتدت مواجع قلبي أو استباحتني الظنون).

تأكد ان لقاءهما الاخير قد فجر ينابيع اعماقه نحوها.. فيتمثل طيفها مبتسما ثم ضاحكا.. يسترجع خشوعها المهيب للشعر.. يحاول ان يرسم صورة لتناسق جسدها البديع وشراسته قال: (كيف لم اكتشف ذلك قبل الان؟)

وتذكر انهما كانا طوال المدة التي التقيا فيها وتعارفا يتعاملان باحتراز: (كنت حبيس فكرة تقول بان الحب لا يولد بين نقيضين)

يمتد البحر براحا من السكون والزرقة.. فكر: (لو كانت معي لاكتسب حزن البحر وسكونه معنى آخر)

لكنه تذكر الهوة التي تفصل بينهما واستحالة اللقاء: (قلت في المرة الأخيرة ليس هناك مستحيل.. فقدر الإنسان.. وفكرت كثيرا بوقع كلمة احبك على مسمعها.. ماذا يكون مصيري إذا لم تحس بما أحس به؟.. فررت من تناسل الأسئلة والظنون بنفسي).

أحس بإعياء من جراء وقوفه الطويل.. تمشي قليلا.. قرر أن يستريح على الربوة القريبة منه.. مأخوذا بالصمت.. برائحة البحر.. الأرض.. يمتد ببصره إلى حيث يلتقي الأفقان في حضنهما تستلقي الشمس برتقالة متوهجة الاحمرار.

شعر بأن يدا تمسح على رأسه.. تخللت بأصابعها شعره.. رفع رأسه.. قابل عينين (مسكونتين بوحشة اغتراب طير البرية) تنامت في أعماقه الجزيرة المنسية..الشواطئ المهجورة.. وشوشة الموج ورفرفة طيور البحر.. أحس بالغبطة طيورا ترحل في سماء قلبه.. عيناه في عينيها قام..وقف قبالتها.. امتدت يداه مرتجفتين وحطتا على شعرها.. خديها.. وعندما ضمها بين ذراعيه أيقن انه يضم بحرا.. منتشيا برائحة الجسد البكر.. يلقي رأسه على صدرها.. فتبهره ارتعاشات نهديها النافرين.. ونبضات قلبها الضاجة بالعنفوان والرغبة في الحلول.

ابتلع البحر قرص الشمس.. امتد براحا من العتمة أحس بقطرات ساخنة تبلل خديه.. شفتيه.. تذوق ملوحتها… مسح عينيه برفق.. ترك البحر خلفه.. انتشى.. رفع رأسه من وجه العتمة.. قال: (كيف يعرف الحزن قلب من يسكنه البحر؟)

9 سبتمبر 1978

 

مقالات ذات علاقة

مَن يفترس الذئاب؟!

أحمد يوسف عقيلة

بوابة جُحا المعرفية

محمد دربي

اثــنـان….

محمد العنيزي

اترك تعليق