من أعمال التشكيلي معتوق أبوراوي
طيوب النص

الغرابة تغزونا

من أعمال التشكيلي معتوق أبوراوي
من أعمال التشكيلي معتوق أبوراوي

“برغم الرياح المتلاعبة بالأمواج إلا أن السفينة ظلت راكدة على السطح و كأنها تنتظر أحدهم أو إشارة الإذن بالتحرك، ثمة لا أحد في ذلك الموج الممتد مع الأفق سوى أطواد الماء تتطاول فوق بعضها، لا أحد يستطيع فهم لغة التخاطب العنيفة بين الرياح و الأمواج المتلاطمة، أهي حلبة مصارعة بين بطلين كليهما يمني الغلبة لنفسه أم عناق طويل بين حبيبين التقيا بعد عهد بعيد؟  …لا أحد يفهم همهمة الموج ربما هي لغة اندرجت فوق مستوى الإدراك بل تجاوزت حدود اللغة و غدت شيئا لا صوتي ولا لغوي و إنما جاز أن تعبر عنه بالحس. و قد لا يكفي …ليس بوسعك أن تفهمها ولو ظللت واقفا مليارات القرون أمامها إلا إذا استحلت موجة مثلها و اراهنك على الفهم لأنك الغريب الدخيل عليها ستحتاج لسنين مضاعفة من عمرك لتصبح موجة حقيقية متأقلمة مع طبيعتها، هل فكرت يوما ولو مزحة أن تكون موجا هادرا؟ !.

بالطبع فكرة مجنونة لا تصدر من عاقل! .من قال إن المجنون هو الوحيد الذي يفكر بالشيء الغريب؟! و من الذي ضمن للعاقل أن يكون دوما طريق تعقله و أنه صائب منزه عن الغرابة؟!.

ربما في تلك الهمهمات صدى لا يصلنا تترجمه الريح بهيئة صفير مكتوم في عمقه عواء شديد لا يقبل أن يخرج إلا صفيرا متضعضعا حينا و حينا يأتي مشروخا ،في كل الأحوال الغرابة يصعب تحويرها فهي تحمل أوجه مختلفة لا يمكن تحديدها في وجه واحد.

لن يتمكن المرء من تفسير لغة بعيدة كل البعد عن لغته رمزا و إيحاء حتى تلك اللغة التي بين جزيئات الماء المشبعة بالملوحة وهي تركع راضخة للصخور المحلاة بالزبرجد و الديباج لكأنها عرائس في ليالي عمرهن الجميلة، من يدري بماذا غمغمت تلك الجزيئات لها؟ ربما تهنئها و تبارك محافلها فلا أحد يعلم بمراسم زفافهن سوى عقد البلور الدافئ القادم من الأقاصي محملا بهداياه النفيسة …أو ربما هي توسلات تستجديها من الصخر في أن يرحم ضعفها و يمنحها تذاكر العبور لضفاف أخرى لاحقة بركب قد فاتها بأميال …و يجوز أن تكون واهبة للحياة خازنة لأمشاج الألفة والمودة! !…..أو من المحتمل أنها تناجي ربها بألا تكن الصخور مثواها الأخير!  المرجح أن يكون هذا هو الذي غمغمت به فالضعف من بعد القوة شيء يلبس النفس الشعور بالعجز والخذلان و ضياع الهيبة والمكانة المرموقة.

حينما تكون هناك عند الأمواج ستشعر بأنك لست أنت، ذاتك انتزعت ذاتك و مشاعر الغربة تكسوك وكأنك في عالم آخر، رهين اللحظة مسكونا بأحلام هائلة لم تخطر ببالك من قبل…..هب أنك طائر قدم لتوه من ترحال شاق، ارخي جناحيك واطفو ثم ليغمرك الماء البارد، ثق بأن هذا السائل سيطربك و يجعلك أكثر غرابة!

وأنت تقف هناك ترنو بنظرك إلى الأمواج الهادرة و الريح تزمجر و السفينة لا تحرك ساكنا، متربصة كأسد، لا يرف شراعها و لا يضطرب قلب ساريها برغم الفوضى من حولها، ترى علام سكونها؟ !.تراها تقف حدادا على فقد ربانها؟ .تخفي في ألواحها حمى الفراق فأبطلت تأثير الرياح عليها …

كم هو غريب ما يحدث من حولنا حتى حياتنا باتت ممتلئة بالغرابة و أشياء كثيرة تغيرت، أصبحنا غرباء في وطن هو أيضا اضحى غريبا عنا، لم نعد نعي معنى الحياة، لقد صرنا ألعوبة في أيد بعضنا نسير كقطع الشطرنج على رقع تغزوها الغرابة! !

اشتقنا للشوارع العتيقة ذات التراب المعفر و روائح الثرى ترافق روائح الخبز البلدي و مسحة من رماد تغطي أجزاء منه.. ضاعت شوارعنا الترابية و غاص الثرى في برك و مستنقعات الزفث والقطران، غاب الخبز المحتشم بأرديته السمراء و استعيض عنه بالمستورد المحلى.

انعدمت اللحافة البيضاء في الأسواق والطرقات ليحل مكانها بنطال الدجينز مبرزا بهرجة التطور وعمق تقدمنا الحضاري !.

من المخجل أن اعترف بأن الإنسانية فينا قد فنيت و تحولنا لبعضنا ذئابا نغرز أنيابنا في الأجساد متى شئنا لا نبالي و لا نهاب فنحن غي غابة مشرعة! .

كل شيء في حياتنا لم يعد له طعم حتى حياتنا لا طعم لها…..الوجوه برقعت بالحزن والبسمة شيعت لمدافنها منذ صرنا غرباء! .”

15-8-2018

مقالات ذات علاقة

إلى آخر جنرالات العالم

المشرف العام

أبنوس

المشرف العام

صدور العدد 58 من مجلة الليبي

المشرف العام

اترك تعليق