الشاعر السوداني مصطفى سند.
طيوب عربية

الشَّاعِرُ (مُصْطَفَى سَنَد).. عَبَقُ المَكَــانِ وَتَجَـــارِبُ الحَيَــاةِ

الشاعر السوداني مصطفى سند.
الشاعر السوداني مصطفى سند.
الصورة: عن الشبكة.

هُـوَ شَـاعِرٌ بِحَجْمِ مَسَاقَاتِ الحُـلُمِ، تُدْهِشُنَا قَصَائِدُهُ المُـلْتَهِبَةُ، وَتَمَــرُّدُهُ الغَـرَائِبِيُّ الفَرِيـدُ، وَتَأْسِرُنَا مُفْــرَدَاتُهُ المُمَوْسَقَةُ بِعَـبَقِ الصَّحْرَاءِ، وَأَعْشَـابِ الغَـابَاتِ، حَيْثُ تَفُوحُ رَائِحَةُ الهَوِيَّةِ وَالتـَّـارِيخِ وَالهِضَابِ الخَضْــرَاءِ البَعِيدَةِ، وَعُذُوبَةِ مِيَاهِ النِّيلِ الأَزْرَقِ، إِنَّهُ (مُصْطَفَى سَنَد) صَاحِبُ القَصَائِدِ الشَّهِيــرِةِ، الَّتِي تَفِيــضُ رِقَّةً وَعُـذُوبَةً وَجَمَــــالاً، وَلِمَ لاَ؟، وَقَـدْ صَاغَهَا قَلَمُ شَاعِرٍ مُرْهَفِ الإِحْسَــاسِ، مُفْعَــمٌ بِالعَـــوَاطِفِ الجَيَّاشَةِ، وَالأَحَاسِيسِ العَذْبَةِ، ذَلِكَ السَّبْعِينِيُّ (الشَّابُّ) الذِي يَتَّقِدُ حَيَوِيَّةً وَنَشَاطاً وَإِبْدَاعاً، نَقْــرَأُ فِي قَصَائِدِهِ مَلاَمِــحَ البَهْــجَةِ وَالشَّوْقِ، وَالضَّوْءِ وَالعَتْمَةِ، وَنَكَادُ نُمْسِكُ بِحَبَّاتِ الرَّمْـلِ، وَنُلاَمِسُ قَطَـرَاتِ النَّدَى الَّتِي تُشِـعُّ بـِـوهَــجِ شِعْـــرِهِ، مِمَّا يُظْهِرُ بِوُضُوحٍ تَأَثُّرَ الشَّاعِرِ بِبِيــئَةِ مَـدِينَتِهِ الجَمِيلَةِ (أُمِّ دِرْمَــان) الَّتِي وُلِـدَ فِيهَا عَــامَ 1939، وَتَرَعْرَعَ نَفَسُهُ الشِّعْرِيُّ فِي أَرْجَائِهَا، وَيُعَدُّ مُصْطَفَى سَنَد مِنْ أَبْرَزِ شُعَرَاءِ السُّودَانِ المُعَــاصِرِينَ (ومن الرواد الأوائل لحركة الشعر الحديث في السودان)، مِمَّنْ امتدَّت تَأْثِيرَاتُهُمْ عَلَى الأَجْيَالِ التَّالِيَةِ، خاصةً في فترة الستينيات من القرن الماضي، حيثُ بَرَزَ، هُوَ وأقرانُهُ، صلاح أحمد إبراهيم، مُحمَّد المكي إبراهيم، النور عثمان أبكر، محمد عبد الحي، والذين كانُوا إضافةً مُتميِّزةً للطلائع الذين كان منهُم الجيلي عبد الرحمن، محمد الفيتوري، وتاج السر الحسن ومحيي الدين فارس.

وَقَدْ سَاهَمَ مصطفى سند فِي إِثْرَاءِ التَّجْرِبَةِ الشَّعْرِيَّةِ السُّــودَانِيَّةِ بِأَعْمَالِهِ الَّتِي انْطَلَقَتْ إِلَى فَضَـاءَاتٍ رَحْبَةٍ مِنَ التَّجْدِيدِ وَالتَّمَيُّزِ، وَتَرَكَتْ بِالتَّالِي بَصْمَةً وَاضِحَةً فِي تَـارِيخِ الشِّعْــرِ السُّــودَانِيِّ الحَدِيثِ. وهُو يلقَّبُ برائد القصيدة المُعاصرة، وهُو من شُعـراء مدرسة “الغـابة و الصَّحراء“. وتميَّز شعـرُهُ بنبرةٍ غنائيَّةٍ عاليةٍ، ومُوسيقى شعريَّةٍ مُتفرَّدةٍ، ولُغة جزلة مُليئة بالتصاوير والأخيلة، كما أنَّهُ، إضافة إلى تفرُّده في الشِّعر، فقد مارس النقد وله فيه إسهاماتٌ مشهُودةٌ، كما كتب القصة القصيرة والمقالة الصحفيَّة، وكان نشيطاً في المحافل والمنابر العربيَّة، بشعره الرَّصين وإلقائه الجـذَّاب.

تحصل الشاعر على بكالوريوس تجارة – شعبة علوم بريدية, كما درس الحقوق. عمل بوزارة المواصلات في معاهد التدريب, كما عمل بالانتداب في وزارة الخارجية لمدة أربعة أعوام, ثم تفرغ للعمل الصحفي منذ 1980م, وعمل مديرا لتحرير جريدة الخليج اليوم بدولة قطر, ثم عاد إلى السودان فعمل بالصحافة اليومية, ثم رئيسا لمجلس إدارة الهيئة القومية للثقافة والفنون. كتبت عنه عشرات الدراسات محليّاً وعربيّاً.

وَالذِي يُتـَابِعُ بِدِقَّــةٍ  تَجْـرِبَةَ مُصْطَفَى سَنَد الشِّعْرِيَّةِ يُلاَحِظْ سَعْيَهُ المُتَوَاصِلْ لِصِيَاغَـةِ قَصِيدَةٍ تَسْتَلْهِمُ مِنْ عَبَقِ المَكَــانِ وَتَجَارِبِ الحَيَاةِ مَـادَّتَهَا الأَسَاسِيَّةَ، بِأَلْفَاظٍ رَشِيقَةٍ، وَلُغَةٍ تَنُمُّ عَــنْ مَخْـــزُونٍ ثَقَافِيٍّ مُتَعَدِّدِ اليَنَــابِيعِ وَالمَصَــادِرِ، بِالإِضَــافَةِ لاسْتِلْهَامِ سُـؤَالِ الهَوِيَّةِ، ذَاكَ السُّـؤَالُ الَّذِي بَحَـثَ فِيهِ الشُّعَرَاءُ السُّودَانِيُّونَ مُنْذُ عُـقُودٍ عَدِيدَةٍ عَنْ خُصُوصِيَّةٍ سُـودَانِيَّةٍ، مُسْتَفِــيدِينَ مِنْ “عَبْقَـــرِيَّةِ المَكَانِ”، الذِي تَلاَقَحَتْ فِيهِ ثَقَــافَاتٌ عَدِيدَةٌ، وَتَجـَــاوَرَتْ فِيهِ حَضَارَاتٌ، وَتَعَـدَّدَتْ مَنَاخَـاتٌ.

وَفِي أَحَـدِ الحِـوَارَاتِ التِّلْفِزْيُونِيَّةِ الَّتِي أُجْرِيَتْ مَعَ الشَّاعِرِ أَوَاخِرَ عَامَ 2004  تَحَــدَّثَ عَنْ تَجْــرِبَتِهِ الشِّعْرِيَّةِ، وَأَهَـمِّ المَحَطَّاتِ فِيهَا، وَطَــالَبَ المُثَقَّـفَ العَـرَبِيَّ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ “بُرْجِهِ العَاجِيِّ” لأَنَّ دَوْرَهُ الحَقِـــيقِيَّ المَنُـوطَ بِهِ هُــوَ أَنْ يُعَــايِشَ النَّاسَ، وَأَنْ يَـرَى عَنْ كَثَـبٍ هُمُـومَهُمْ وَآلاَمَــهُمْ، لِيَطْـرَحَــهَا عَبْـرَ أَعْـمَـالِهِ الإِبْـدَاعِيّــَةِ أَيّـاً كَانَتْ، وَوَصَـفَ الإِبْدَاعَ السُّــودَانِيَّ ــ بِشَكْــلٍ عَــــامٍّ ــ بِـأَنَّهُ: “إِبْــدَاعٌ حَارٌّ غَــاضِبٌ وَمُنْفَـعِـلٌ”.

فِي قَصِيدَتِهِ “مَقَاطِعٌ اسْتِــوَائِيَّةٌ” يَطُــوفُ بِنَا (مُصْطَفَى سَنَد) فِي فَضَــاءَاتِهِ الشِّعْــرِيَّةِ الـرَّحْـبَةِ، بَيْنَ القُــرُنْفُلِ وَأَنْهَـارِ العُيُـونِ، وَصَنْدَلِ المَـــــاءِ المُضَــاءِ، فَيَقُـولُ:

مَا صَــدَّ جُنْــحَ يَرَاعَةٍ تَلْهُـو وَمَا حَبَسَ الفَـــرَاشْ؟

أَيَعُوقُ مَقْــدَمَهَا النَّسِيمُ وَهَـذِهِ السُّحُــبُ العِطَــاشْ؟

وَأُلَمْلِمُ الحَاكِي وَأَرْفَعُ زَوْرَقَ التُّحَفِ الأَنِيقَةِ وَالرِّيَاشْ

لِيَخِرَّ صَـرْحُ مَبَاهِـجِي الوَاهِـي، لِيَحْتَــرِق الفَــرَاشْ.

ويقـول في قـصيـدة أخـرى:

وتمضــــي بنــــات المــــاء للأكمــــام..

ليكـن رحـيلُك وردةً للنـــور..

زهوَ قصيدةٍ تهبُ الدِّماء لآهةٍ لبست يقين الموت..

ترحـــلُ في تقاسيم المطـــــر..

ـ يا صدر أحرقـت الضحى..

رئتي تُجالسني على باب من الرَّمل القديم, وتستحيلُ إلى حجر…

في كل عينٍ رعشة تغفُـو على جسر الظلال الزرق تنذرنا

بأنْ سقط النصيف.. وأورق النِّطع المُعفر بالشكوك..

وبالدِّمـــاء و بالخطــــر…

ليكُن رحيلك عن مضاربنا العشية وردة للنُّـور..

سـوسنة على خــد القمــرْ..

ليكُن رحيلك أيُّها القـاسي مواسم للعشيرةِ..

أن تبيع الذل للموتى وتستبقي تواريخ الكلام..

هل كان ذاك الصادحُ المبرُوك إلا صوتك الطافي..

على عطــر الحكايا في لهاة الصيف محمُولاً إلى جسر الغمام?

يتوسَّدُ الآتون أجنحةٍ من الإصغــاء..

عاد النيزكُ المفتُونُ يهمسُ في فضاء الكون:

أنْ عُودُوا لقطف النجم أسورةً على لحم الرُّخـام..

كيف الرُّؤى يا أيها الآتــون?..

تنتظرُون أن يمضي حصانُ البحر؟ أم تمضي بناتُ الماء للأكمام؟..

تلثمها فينكشفُ الظلام?..

تنبحُ في مواقيت الفطـــام?…

ليكن رحيلك بين خفْق الريش في قبْو الدُّجى..

وبراءة التشكيل أغنية تحدِّث كل من يدنُو:

بأن الصمت عُصفُورٌ من الورد الجريح..

يتسلقُ الأرواح والألواح ينقُـرُ سائلاً:

ـ يا أيها الآتون من يسعى لـدى الأيام؟..

تحملُ قلبيَ الموجُوع بالرؤيا إلى ظلٍّ مُريحٍ?..

في كُلِّ عرقٍ جمرة تصحُو على كنا .. وكان..

في كُلِّ عرقٍ جمرةٌ تصحُو وتركُضُ في دُرُوب المهرجان..

سقط النصيفُ وسيدي النعمان يغسلُ بالدماء نجاسة الشرف المُهان..

كُنَّا…. وكــــان..كذبٌ فما كنا سوى موتى يُجيدُون التردُّد والعويلْ..

من يأتني بقميصه المقدُود من كُلِّ الزوايا..

أو يُساجلُني هواهُ، ويستعدُّ فقد دنا وقت الرحيل?..

كُنَّا .. وكـان ولم يكُن إلا نثارة كوكبٍ يهوي..

ويسطــعُ في مرايا المُستحيل..

إني أراه الآن في حمَّى بياض النصل ينبت..

في تضاريس الجبال..

إني أراه الآن في شمس النعومة مُوقناً كالشمس..

من صدقي ومن حُبِّي، وكفُّ الزَّهو ترفعُ كُلَّ أوراق المُحال..

إني أراهُ على الجياد الخُضر ممشُوقاً..

يفتّش عن ميادين القتال..

إني أراهُ مُحاوراً ومُصادماً، وأراهُ مُندفعاً مع الصُّبح الجميل..

وأراهُ كالنهر النبيل يُفارق المجرى..

ويزحفُ في حرير الهمس والإصغاء يحترفُ الغناء..

هذا الذي صنعته أحــزاني وأوراق الشتـاء..

كنا..وكـان..

وجهي على نهر الدم المسفوح يسبح طافيا..

للورد فيه نضارة الموت الصبي وشهقة اللهب المعذب..

و احتضارات الزمان..

من قصيدة: (ضفائرها القتيلـة):

إني سألتُ فلم أجد أحدا يجيبُ..

فقد تناهت في عُيُون الشمس عين حُرُوفك الخضراء..

ذابلة تُضمِّدُ جُرحها وتذوبُ..

أنظرني أجمل في غداة الصحو غيماً للبكاء..

أكاتب النائين يا أسفي..

وأصمد في هـوان المسألة..

إني سألت وقد تهاوت كل مُرسلة ضفائرها القتيلة..

سيد لحظة الفوضى وسيد أقحوان القهرِ

والعصر المهيضِ

ماكادت الأوراق تشعر أول الأقلام يخدشها

ويكتب فوق صفحتها بيان المهزلة

حتى تفتح في هوامشها البريقُ الأسودُ..

المنسوجُ من لغة الهواجس والهموم المرسلهْ..

إِنَّ مَــــا يُمْكِـــنُ الإِشَارَةُ إِلَيْهِ هُنَا أَنَّ صِيَاغَةَ الشَّاعِـرِ لِنُصُــوصِهِ الشِّعْرِيَّةِ عَلَى هَذَا المِنْوَالِ يَمْنَحُهَا حَيـَوِيَّةً وَإِيقَـاعَـاً بَارِزَيْنِ، وَيُعْطِيهَا تَواتُراً نَغَمِيّاً، مِمَّا يُضْفِي عَلَى المُنْتَجِ الشِّعْـرِي لِمُصْطَفَى سَنَد لَمْسَةً فَنِّيَّةً رَائِقَةً، تَمْنَحُ القَصِيدَةَ رُوحَ التَّوَهُّـجِ وَالأَلَـقِ وَالتِّلْقَائِيَّةِ، وَبِالتَّالِي يَبْرُزُ عُنْصُراَ التَّشْوِيقِ وَالإِمْتَاعِ اللذِيْنِ قَدْ يَدْفَعَانِ المُتَلَقِّي لِمُطَالَعَةِ أَيِّ عَــمَلٍ أَدَبِيٍّ، خُصُوصاً إِذَا كَانَ شِعْـراً.

وَ الجَدِيرُ بِالذِّكْـــرِ أَنَّ الشَّـــاعِرَ قَـدْ أَصْدَرَ العَدِيدَ مِنَ المَجْمُوعَـاتِ الشِّعْرِيَّةِ مِنْهَا: “البَحْرُ القَــدِيمُ” عام 1971، وَ “مَـلاَمِحُ مِنَ الوَجْهِ القَـدِيمِ” عام 1978، وَ “شَعْـرَةُ البَحْرِ الأَخِيرِ”، “عَـوْدَةُ البَطْرِيقِ البَحْرِي” عام 1988، “أوراق من زمن المحنة”، “نقوش على ذاكرة الخوف” عام 1990، و”بيتنا في البحـر” عام 1993. وَغَيْرِهَـا.

حصل  سنـد عـلى العديـد من الجـوائز التقديريَّة، منها على سبيـل المثـال:

“جائزة الدولة التشجيعيَّة”، عــام 1983. “وسام العلوم والفنون والآداب”، عــام 1983.

“جائزة الشعـر” من جامعة الخرطوم في عـام 1991.

وبعد صراع طويل مع المرض، توفي الشاعـر مصطفى سند في عام 2008 م، في مستشفي أبها بالمملكة العربية السعـوديَّة، فرحمـة الله عليـه.

مقالات ذات علاقة

أسير الشغف

المشرف العام

النقد الأدبي الاحترافي وعلاقة وعيه الفلسفي بعلم الإجتماع السياسي (4-4)

المشرف العام

فخاخ الرائحة ورائحة المدينة ليوسف المحيمد

إنتصار الجماعي

اترك تعليق