النقد

الدور الوظيفي للشخصية في قصص أحمد إبراهيم الفقيه

 

مع استمرار الأبحاث والدراسات حول تجارب الأدب بمختلف أجناسه يسعى التحليل الأدبي إلى الإحاطة بالمفاهيم التي تسيّر حركة الكائن الأدبي حسب رؤية الباحث المعاصر،

ويظل الجدل حول قيمة بعض المفاهيم في علاقتها بعناصر العمل الأدبي (كنتاج لحركة هذه العناصر) قائماً، نحو تأطيرها داخل منظومة عمل ممنهجة على أسس بحثية معلومة ووفق التأكيد على تجارب التأصيل المقدمة سابقاً، وهو ما (يؤكد) على شرعية المفهوم عبر أحقية استخدامه في حقول العمل كمفهوم متعارف عليه في الكشف عن (امتدادات) حركة عناصر العمل، وإلى حين اكتشاف مجالات مغايرة داخل أروقة العمل الأدبي تظل هذه المفاهيم بمثابة الأداة التي تنطلق منها دراسة الناقد في حقول الشعريات.

من بين المقولات التي تم تناولها بشكل موسع ابتداء من بدايات القرن المنصرم مفهوم (التبئير) في فضاء أي نص شعري كشكل من أشكال تنظيم الخبر، وإن اختلف البعض في تنميطه من حيث وجوده في مختلف النصوص السردية، إلا أن هذا الاختلاف منحه مساحة واسعة في إطار البحث والتقصي، فخلال تلك المرحلة وضع هذا المصطلح تحت عدسات العديد من الأبحاث لبلورته وإخراجه إلى حيز الدراسة التطبيقية في النصوص الأدبية، وعلى مستوى بالغ الأهمية تعلق بالتقنية السردية في كتابة النصوص ؛ حيث بالإمكان الاستفادة من وجود هذه الخاصية في أي نص (إن الوقائع التي يتألف منها العالم التخيلي لا تقدم لنا أبداً في (ذاتها)، بل من منظور معين وانطلاقاً من وجهة نظر معينة) (1).

ولكل عمل سردي بؤرة للسرد تقوم عليها وجهة نظر العمل أو جزء منه، ويستقل عمل هذه الرؤية عن مقولات أخرى قد تكون ملازمة لها، وهنا تكمن قيمة الأبحاث النظرية المتعاقبة.

ففي دراسة عن الموضوع يؤكد جنيت (2) على الحدود الفاصلة بين الرؤية والصوت في فضاء العمل، هذه الخطوة التي أجراها جنيت ضمن فصول الصيغة تعد من الخطوات الهامة على الصعيد الإجرائي نحو وصف مستقل لكل مستوى على حدة، إلا أن التلازم بين المستويات في علاقة إدماجية هو ما يفضي إلى معنى.. وعليه فإننا سنحدد جانب التناول في أحد نصوص الكاتب أحمد إبراهيم الفقيه، وهو نص (موعد تحت برج الساعة)، الذي تضمنته مجموعة (مرايا فينيسيا) الصادرة عن دار الشروق.

وبناء على ما سبق سنهتم بتناول جانب وحيد يخص الشكل الذي انتهجه النص في بناء أحداثه، حول شخصية وحيدة تم إسناد الحكي إليها وفق استخدام ضمير المتكلم، وكنا قد تعرضنا سابقاً لاستخدامات هذا الضمير ؛ إلا أن ما يعنينا منه هنا _ بالإضافة إلى تناول رؤية العمل والتي تم إسنادها إلى شخصية محورية _ أمر آخر قد لا يعني شكل البحث بقدر ما يعني آلية اختيارنـا للنص، وهو ما يخص حضور ضمير المتكلم في أغلب أعمال (أحمد إبراهيم الفقيه)، والذي يحتاج إلى دراسة مستقلة للكشف عن آلية عمل هذا الكائن بمختلف أبعادها.

في قصة (موعد تحت برج الساعة) اعتمد النص من خلال استخدامه لضمير المتكلم على بناء القصة وفق عمل مجهد لشخصية وحيدة استخدمت المونولوج الداخلي (كوسيلة اتصال) لاستدعاء باقي عناصر الحكاية منطلقة من تجربة مفترضة لهذه الشخصية، ونحن نؤكد على (استدعاء) بدلاً من (وجود أو تكاثر) باقي مفردات النص حول هذه الشخصية، ويقوم الاختلاف بين الاستعمالين (كما نرى) من خلال المستوى الزمني الذي تعمل في إطاره الشخصية، ذلك أننا نتحدث عن نمط من القصص التي تكون فيها (الذات) مركز العمل ومحركه منذ ولادة النص وعند تأثيثها لفراغه وفق استدعائه لباقي عناصره عبر منظومة بسيطة، ويعمل هذا النمط (كما نلاحظ) على إعاقة مسار حاضر النص وفق غيابه في مناسبات عديدة عن هذا الحاضر للاستعانة بشبكة معلومات خارجية تشكل مخزونات ستصبح فيما بعد تفاصيله مؤثرة في مسيرة النص، باستدعاء بيانات تقوم بأدوار نحو بناء المخيلة الحكائية في هذه القصة تأسيساً على أزمنة تختلف عن الزمن الذي يفترضه النص في البداية: (مضت نصف ساعة وأنا أنتظرها) (3).. حيث تكشف لنا هذه الجملة عن زمن السرد في بداية النص، بعد أن نعلم أن زمن البداية يتحدد بعد مرور نصف الساعة الأولى، وستخلو المعلومات التي تأتي بعد هذه النقطة من الأهمية في حال غياب مرجعياتها وأسباب حدوثها، لهذا أشرنا إلى ما أسميناه (بالمخزونات) التي يلجأ إليها النص لتغطية المساحات الشاغرة عمداً.

– (يجب أن أترك هذا الانتظار الذي لا معنى له – قلت في نفسي – وأمضي للاعتناء بشؤوني الأخرى، ولكن أية شؤون تنتظرني في مدينة أجنبية جئتها ولا أعرف من أهلها إلا أرملة عجوز هي مسز كين…….) (4).

– لا أدري كيف صبرت هذه المرأة على حديثي، وكيف هزت رأسها بالموافقة (……….) رأيتها تقف أمام متجر يبيع ألعاب الأطفال، كان هناك قرد يضرب الطبل، وراقصة إسبانية ترفع طرف ثوبها (5).

يعتبر الاقتباس الأول من النماذج الجيدة في نص القصة التي يعبر بها من زمن إلى آخر، وهو يستخدم سلسلة سببية بسيطة ينتقل عبرها من حاضر للكلام يمتد إلى حيث استفهام يحيل بدوره النص إلى نقطة سابقة تتعلق بخبر سابق، ليزودنا بخلفية تتعلق بحداثة وجود الشخصية في بلد أجنبي.

ويهتم الاقتباس الثاني باسترجاع سردي لأجزاء مفقودة في القصة، تنتج عن حذف متعمد في حاضر السرد، وذلك للإشارة إلى اللقاء الأول الذي حدث قبل انطلاق بداية النص.

ويبدو ظاهراً مدى اعتماد النص في عرض معلوماته على مستوى سيطرة مفردات المونولوج في التحكم بالنظام القصصي وضبطه لتمرير المعلومة، حسب خلق المبرر، ولانضمامها إلى شبكة البيانات التي تشكل النص.

إن انتهاج هذه الآلية في أغلب مراحل التكون _ كما أسلفنا _ تعتمد بشكل كبير على حركة شخصية وحيدة، وبفعل منظورها الذي سيتجاوز عمله من إدراك إلى رؤية كاملة.

من جانب آخر فإن سرد الأحداث المتخيلة أو الواقعية هو إيهام لغوي للتقليد، وإن دلالة اللغة تقف عند درجات الصناعة، بهذا فإننا نقف عند مقاطع في بعض النصوص لنتساءل عن أهميتها.. فهل يمكن أن نجد في النصوص شيئاً يخلو من الأهمية ؟

يزعم بارت بأن (لكل شيء معنى، وإلا فلا معنى لأي شيء).. فما معنى وجود مقاطع تخلو من الأهمية على مستوى القصة في نص (موعد تحت برج الساعة) ؟

إن مجرد ذكر (المسز كين) في الاقتباس الأول لن يضيف شيئاً على صعيد مسار القصة، ورواية قصة القرد والراقصة الإسبانية قد يراها الكثير شكلاً من أشكال الحشو الزائد عن حاجة النص، وهو ما يقودنا إلى تثمين جنيت لاصطلاح أقره بارت تحت مسمى (أثر الواقع) (7)، وأنا أزعم بأن المقاطع المقتبسة سابقاً تمثل شكلاً مناسباً لهذا المسمى.

فالقصة تقرر في أكثر من مناسبة خضوعها لسيطرة الواقع بمفرداته التي لا توجد إلا من باب الإعلان عن وجودها الذي يحتمه (الوهم المرجعي) للأحداث في القصة، فعند حكاية بعض الأحداث قد نصطدم بأجزاء نعتقد بأنها تافهة أو زائدة، إلا أن المسز كين برفقة ابنها وكلبها وجدت بداعي يقتضيه تقليد الواقع، وهو ذات الوسيط الذي نتواصل عبره مع نص القصة.

ومشهد القرد والراقصة سيتخذ موضعه من الجانب التركيبي للنص، ويكتسب شرعية وجوده في القص من هذا الجانب، حتى في حال تحدثنا عن الإضافة الجمالية أو الإحالة الدلالية الناتجة عن إسقاط أطراف هذا المشهد على الفكرة التي تحرك مسار العمل (القرد / الراقصة)، (البطل / المرأة المنتظرة ).

من جانب آخر فلعنا نعلم جيداً أن بعض من الاصطلاحات التي تم إرساؤها والتعارف عليها لاحقاً في حقول السرد قامت على أساس الوظيفة المنجزة داخل المنظومة، واستناداً إلى هذه الفاعلية قد تمنحنا التجربة إمكانية التمييز بين عدة مصطلحات تشترك في احتلال مساحات مفاهيمية متقاربة من زوايا محدودة، والأمثلة في هذا الجانب عديدة، ربما أقربها إلى حديثنا التدخل المعلوم في وظيفتي (السارد والبطل)، فمجرد اشتراك الكائنات في وظيفة واحدة لا يعنى اشتراكها الكلي في جميع الوظائف، وفي هذا الجانب قد نذكر بعضاً من الاختلافات التي تناولها جنيت حول التطابق الوهمي في أداء بعض هذه الوظائف ؛ ذلك أن الاختلاف سيكون قائماً قبل أن نعلم بان السارد يعلم أكثر من البطل، حتى في حال كان هذا السارد هو ذاته البطل، وبمجرد تناول الطرفين بالتحليل سنلتمس مدى الاختلاف بين الكائنات وسيظل التطابق محل التباس لاغير، ومن ثم فإن التبئير على البطل في بعض الحالات هو عند السارد تقييد اصطناعي للحقل، سواء بضمير المتكلم أو الغائب، هذا ما يقودنا إلى تداخل أكثر تعقيداً وأعنى بذلك التمييز بين شخصي السارد (أنا السارد وأنا المسرود)، وهو ما يتكرر غالباً في الحكي بضمير المتكلم كما في قصة (موعد تحت برج الساعة)، وبتحديد أكثرعند اعتماد المونولوج الداخلي كصيغة لاستخدام الضمير ؛ حيث ينشطر شخص المتكلم إلى قسمين، فيكون ذاته المتكلم والمتكلم عنه، وهي تقنية وإن كانت ليست بالحديثة إلا أن استخدامها في السرد الحديث منحها فاعلية على مستوى الاقتصاد في الحكي.

فكما قلنا اعتمد سارد القصة المتناولة هنا على تمرير خطابه عبر شخصية وحيدة اضطلعت بوصف (أفعال الشخصية) وعرض سيرة المكان لخلق الحدث بمبرراته ومكوناته.

إن إتمام هذا العمل لن يتم دون اللجوء إلى استدعاء شخص آخر يساند وجود هذه الشخصية، شخص غير مرئي، فهو لن يكون المؤلف ولا السارد، وفي الوقت نفسه هو ليس بعيداً عن محور القصة بل في طوعها، ويعلم ما تعلمه، إنه لاشك ذات هذا المحور الغائبة إلا من لحظات احتياج النص إليها، وسيكون سنداً فعلياً في تمرير أية معلومة (خبر – إيحاء…..إلخ) في جسد النص، وبإمكانه أن يكون في لحظات عديدة المتغير الذي يستعين به المحور في الانتقال من مستوى لآخر في خطاب النص، وهو بهذا يؤدي وظيفة للسرد ولمحتوى القصة.

_ (كيف أوهم نفسي بأن لي موعداً معها) (8)

_ (لم أترك شيئاً خلفي عندما جئت لهذه البلاد) (9)

إن الفصل بين أنا السارد وأنا المسرود في الاقتباس الأول يحيل إلى درجة من الوعي تكتسبها الأولى تجاه الثانية، وسنعلم بعد تتبعنا لأحداث القصة بأنها درجة زائفة لتلاشى الوهم عن (أنا المسرود) ووضعه في هذه الجملة محل تشكيك، وتكررت هذه الحالة في القصة بأكثر من شكل في انتظار حدوث الموعد، وتم اتباع هذه الآلية بامتياز في عمل القصة، وإن كانت تظهر بأشكال متفاوتة عبر المونولوج الخالص.

في الاقتباس الثاني يحدث الانشطار بفعل وجود زمن مختلف يعمل على احتواء شخص آخر استناداً على اختلاف الحالة، وسيكون زمن السارد بمثابة نقطة إعلان عن هذا الانفصال بين عالم حاضر وعالم مستدعى، ويتم الإجراء هنا ليؤكد على مقاطع أخرى حملتها القصة عن خلفية تكوين الشخصية، النشأة الشرقية، وهو ما يضيف باستمرار إلى هذه الشخصية طابع الاختلاف عن الثقافة المؤطرة لأجزاء المكان.

لا شك بأننا هنا أمام مجموعة محددة من الأخبار التي تغطي مساحة السرد حسب شكل وحجم استدعائها في القصة، وبتنوع الوظائف التي تقوم في هذه الحدود.

إلا أن هذه الأخبار تحضر بفعل احتياج هذا النص (بالذات) إليها، ولن تكون بالضرورة صادقة بالنسبة إلينا، ونحن نتحدث عن الأخبار التي ترضخ لنسب متفاوتة من الأحكام الشخصية من قبيل (جميلة ـ رائعة ـ قبيحة ـ مدهشة……. إلخ).

وهي نموذج جيد لما يسميه تودوروف ” الأخبار الذاتية ” في المقولة الرابعة (للتمييز بين أنواع الرؤى)، وهنا ربما نجد أنفسنا أمام أوهام لا أخبار، ويكفي أن نشير لاستناد قصة (موعد تحت برج الساعة) إلى الطبيعة السيكولوجية، ونحن نتابع التأثيرات المتلاحقة بفعل الوسيط اللغوي على طبيعة السرد كما افترضتها القصة، وهي حالة يقر النص في أكثر من مناسبة بأنها تقع ضمن الاحتياج الناتج عن (الكبت ـ القمع ـ…………. إلخ).

(ـ لماذا أتخلى عن موعد لم أحصل عليه إلا بالعناء و المكابدة مهما كان موعداً كاذباً زائفاً، فهو موعد مع امرأة جميلة).

ولكن من أين لهؤلاء النسوة أن يعرفن أنني جئت من بيئة صحراوية جعلت رسالتها في الحياة هي الفصل بين النساء و الرجال؟).

إلى جانب تأكيدنا على الكم الهائل من الأوهام التي تحملها أخبار القصة، و التي شاع وجودها في مثل هذا الاستخدام عند الفقيه أو غيره، علينا التأكيد على أن هذا الوجود لا ينقص من قدر العمل، وقد يضيف إليه ؛ ذلك أن النص لا يقف عند (قضية الصدق والكذب)، إلا أننا نحاول اقتفاء أثر حركة شخصية وحيدة في النص و الوظيفة التي اضطلعت بها هذه الشخصية في عمل الحكاية.

بهذا فإننا نقف أمام إحدى آليات عمل الكاتب أحمد إبراهيم الفقيه في بناء عالمه السردي، بفعل عمل شخصيته المحورية، وهي عادةً الشخصية الوحيدة التي يتم تبئير العمل عليها، ونحن نتحدث عن معظم أعمال الكاتب القصصية و الروائية من خلال نموذج رأينا أنه يحقق بامتياز الفعل الوظيفي نحو بناء قصصي يقوم على هذه الآلية.

_______________________________

1 – الشعرية _ تزفيطان تودوروف _ ت شكري المبخوت وآخرون _ ص 50 _ دار توبقال.

2 – خطاب الحكاية – جيرار جنيت – ت محمد المعتصم وآخرون _ المجلس الأعلى للثقافة _ ص 199.

3 – مرايا فينيسيا _ أحمد إبراهيم الفقيه – دار الشريف _ ص 55.

4 – نفس المصدر _ ص 55.

5 – نفس المصدر _ ص 57.

6 – التحليل البنيوي للقصص – ت منذر عياش – مركز الإنماء الحضاري – ص 41.

7- المصدر رقم (2) _ ص 180.

8 – مرايا فينيسيا _ ص 56.

9 – مرايا فينيسيا _ ص 59.

10 – المصدر رقم (1) _ ص 52.

مقالات ذات علاقة

صادق ُ النيهوم.. ناقداً

عائشة إبراهيم

ديوان النثرِ العربي يوسف القويري أنموذجا

أحمد الفيتوري

نهر حكايات يغمر «نهارات لندنية»

المشرف العام

اترك تعليق