المقالة

الدستور والوصاية

ليس القول بأن {آدم} هو اسم أب البشر إلا زعم خاطئ، يناقض نفسه لمجافاته منطق العقل وأسس الدين، وإذا كان هناك من يصر على أن يدرج آدم في مصاف الأنبياء، فهو إنما يؤسس ما يقوله على ذلك الخطأ ويمعن فيه، ناهيك عن أشكال وصيغ ذلك الإمعان من تقسيم البشر إلى بني آدم} و{بنات حواء) الذي لاهدف له غير التأكيد على أوهام نقص الأنثى ودونيتها مقارنة بالذكر، وبإغفال حقيقة إختلاف أحدهما عن الآخر الذي لا يبرر ذلك الوهم، بل يظهر زيفه ويبطله.
ولعلنا بالعودة إلى القرآن الكريم الذي توظف آياته وتقدم غالباً مجتزأة من سياقاتها، لتبرير هذه الرؤية، نتيح لأنفسنا ضؤا نلقيه على واقعنا ومواضعاتنا ومعارفنا وما ندعوه ثوابت نقدسها.
وعندما لا نجد في القرآن حرفاً واحداً يقول أن (حواء) هو اسم أم البشر، فلا أقل من أن يُفرض علينا التساؤل عن معنى ذلك، وأن نتحفظ على كل فهم وتفسير لديننا يستدعي كائن الأسطورة التوراتية ذاك، ويصر على تطويع قرآننا وتوظيف ديننا ليضفي على ذلك الكائن صبغة الوجود الواقعي، ويصب في النهاية في قناة تبرير مختلف أشكال العنصرية والتعصب في فكرنا ولغونا وسلوكنا، والتي تضاد بمجملها حقائق وأسس الإسلام.
ما من حواء في القرآن، وتلك حقيقة تجعل من السؤل عمن يكون آدم سؤالاً وجيها وجديراً بأن يُطرح ويُناقَش، فالقرآن الذي لا يذكر حواء يتحدث في بعض آياته عن  آدم وزوجه. {وقلنا يا آدمُ اسكن أنت وزوجُكَ الجنَّةَ وكُلا منها رَغَداً حيثُ شِئتما. ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين}… البقرة الآية [34].
ولا يوافق طرحنا هذا أن ننساق مع القول بأنها شجرة تفاح، أو شجرة المعرفة أو شجرة الخلود، لأنها في الواقع (شجرة الزقوم) التي بذرتها (الأنا) ومبدأها {أنا خير منه…..} الأعراف الآية [1]. وأيضاً {فقلنا يا آدم إن هذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى} طه الآية [114].
وكل تلك الآيات الكريمة تفيد أن آدم ليس إسماً خاصاً بأبِ البشرية، بل هو الإنسان عموما، الذكر والأنثى المخلوق من (الأدم) الطين، ومن ثم فالخطاب الإلهي إلى آدم في القرآن ليس موجها لأحد الجنسين البشريين دون الآخر، بل هو موجه إلى الإنسان الذي يجسده كلاهما، وهو خطاب ينصب على تذكير هذا الإنسان بذاته وبتميزه عن غيره من المخلوقات، وعلى وضعه أمام مسؤولياته الوجودية والإيمانية والعقلية والأخلاقية.
وأيضا فإن الإنسان آدم (الذكر والأنثى) هو ما تعنيه النفس البشرية {يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة . وخلق منها زوجها . وبث منهما رجالاً كثيراً ونساءاً. واتقوا الله الذي تساءَلون به والأرحام . إن الله كان عليكم رقيبا} النساء الآية [1].
وفي سورة الأعراف {هو الذي خلقكم من نفسٍ واحدةٍ وجعل منها زوجها ليسكن إليها….} الآية [189]. فآدم هو تحديداً هذه النفس الواحدة والتي لا قيام لها ولا حياة إلّا باجتماع (الروح والجسد)، والتي هي نفس الذكر ونفس الأنثى على السواء. وعلى السواء هنا ليس تعبيراً يجئ لإكمال الجملة السالفة، ولكنه محاولة لقول أنه التحقيق الفعلي لقيمة (المساواة) التي لا ينتقص منها ولا يبطلها اختلافهما العضوي وما يترتب عنه من وظائف حياتية، بل أن المساواة تتيح لهما أن يكمل كل منهما الآخر في إطار المودة والرحمة اللتين تتصدران منظومة القيم الإنسانية المؤسسة على مبدأ التوحيد التي يقوم عليها الإسلام ويؤكدها، فقيمة المساواة تتناقض مع احتكار أي منهما للحياة أو الحرية أو العدالة أو الحكمة أو الشورى أو المواطنة وتحريمها على الآخر، وعندما يفعل أحد الجنسين ذلك فمعناه أنه (علم ذلك أم جهله) يقوض منظومة قيم المودة والرحمة التي أسس عليها الخالق تعالى الإجتماع البشري، والمؤَسسة بدورها على الأساس المعرفي والايماني والأخلاقي والحقوقي للوجود بمجمله، وذلك هو مبدأ التوحيد {ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة. إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون} الروم الآية [20].
وفي إطار قيم المودة والرحمة نجد قيمة (الشورى) التي تجسد مبدأ الحوار وقبول الآخر المختلف، وتحقق التعارف نقيض {ثمار شجرة الزقوم} التناكر والعداوة والبغضاء، وتمكن الإنسان الذي كرّمه خالقه تعالى من أن يكرم نفسه بتقوى الله، التي لا تحتاج منه الحرص على مظهره، والعبوس وتصنع التبتل  والجدية، فليس التصنع والمراءاة من تقوى الله، مثلما ليس منها أن تستحوذ فئة من المجتمع على قيمة الشورى وتنسبها إلى نفسها وتدعي الحق فيها دون غيرها من أفراد وفئات ذلك المجتمع، لتبرر ما تدعيه دون سند من عقل أودين من وصاية على عقول الناس وضمائرهم.
ولا شك في أنه مما يناقض ما أعلنه واضعوا مسودة الدستور الليبي في ديباجته التقديمية من تأسيسهم ذلك الدستور على قيم ديننا الحنيف ما جاء في المادة السابعة والسبعين من تسمية (مجلس الشورى) وحصر للشورى التي ليست مبدأاً بل قيمة انسانية سامية.. يحق لكل إنسان (ذكراً أو أنثى) أن يمارسها بل ويتوجب عليه من منطلقات العقل والايمان أن يمارسها.. ضمن اختصاصات مجلسي الشيوخ والنواب اللذين تجمعها هذه المادة تحت مجلس شورى.
وإذا عرفنا أن (الديموقراطية) هي الصيغة السياسية لقيمة الحرية، وأن الإنتخابات المباشرة هي آلية تحقيق الديموقراطية، فإن مجرد قيام هيئة تحت مسمى.. مجلس الشورى.. يقوض الديموقراطية كفكر وكممارسة، ويجعل من انتخابنا لمجلسي الشيوخ والنواب المزمع تسميتهما مجلس الشورى يعني تخلينا عن قيمة الشورى وحقنا في التحاور حول ما يهمنا ويمسنا من أمور، وتنازلنا عنه لفئة من المجتمع نعطيها الحق في تجاوز ما اقيمت من أجله وهو صلاحية البث في القضايا والأمور المحتملة والطارئة التي لا تتحمل ارجاءاً، لتبث في كل القضايا العاجلة والآجلة على السواء ثم أن نقبل ما تراه ونسلم به.
وإذا كان انتخابنا لأعضاء هيئة صياغة الدستور قد أوهمهم.. ربما بسبب الجهل بالديموقراطية وبما أسسوا عليه الدستور.. بأننا نسمح لهم بأن يفرضوا علينا رؤاهم المصلحية وربما المزاجية الخاصة  أو تمرير رؤى أيديولوجية أو جهوية أو عنصرية، ودون اهتمام حقيقي بما يشير به المواطن الليبي الذي لا مصلحة له في أي من تلك الرؤى المتخلفة، إذا كان الأمر كذلك فلا معنى للقول بتأسس عقدنا الإجتماعي على قيم ديننا الحنيف.
وهكذا فتسمية (مجلس الشورى) التي يبدو بوضوح أنها مستعارة من نصوص دستورية وضعت لتبرير الإنحيازات المذهبية والأيديولوجية ولا شئ يربطها بالديموقراطية سوى القطيعة، وهي تسمية لا توافق دستوراً يفترض كونه موسساً على القيم الإنسانية، فتسمية (المجلس التشريعي) بغرفتي الشيوخ والنواب، هي الأنسب منطقياً لأسس الدستور المعلنة.
ولعله لا يخل بسياق النقاش أن نتناول المادة الثامنة من مسودة الدستور، وهي المادة التي تتحدث عن (مصدر التشريع) وتحدده بالشريعة الإسلامية، وتقول حرفياً (الإسلام دين الدولة والشريعة الإسلامية مصدر التشريع وفق المذاهب واالإجتهادات المعتبرة شرعاً، من غير إلزام برأي فقهي معين منها في المسائل الإجتهادية، وتفسر أحكام الدستور وفقاً لذلك).
وهنا لابد لنا من التأكيد على أن معرفة سوية بالإسلام وفهماً صحيحاً، يؤكدان على أنه الأصل في حين أن الشريعة بمجمل ومختلف مذاهبها واجتهاداتها فرع عنه، ذلك أن الإسلام بمنظوره الذي يؤسس لشمول يغاير كل صيغ الشمول الأخرى التي تعتمد النظر التجريدي الإنتقائي المفضي إلى الإختزال، والذي يعطي لكل مكونات وجوانب الموضوع الذي يتطرق إليه حقها كاملاً من الإهتمام والإعتبار ولا يهمل أياً منها أو يتجاهله لحساب غيره، ليخلص إلى موقف موضوعي، يبقى وحده الأساس العقلي والإيماني للتشريع في عقد إجتماعي مؤسس.. كما هو معلن.. على قيمه.
وليس أدل على وجاهة هذا الفهم من حقيقة ألإختلافات وحتى التناقضات في صيغ الفهم والتفسير والإجتهادات التي تناولت مجرد.. أحكام العقاب والجزاء.. من مختلف التوجهات المذهبية والانحيازات الأيديولوجية، وهو ما يجعل الشريعة في حاجة دائمة إلى إعادة النظر والتفسير على ضؤ الإسلام المؤسس على مبدأ التوحيد ومنظومة القيم التي تتصدرها قيمتا المودة والرحمة، وفي إطار الواقع الموضوعي بمكوناته الثقافية والحضارية، ويجعل من الصواب أن يكون {الاسلام دين الدولة ومصدر التشريع}، في الوقت الذي يبطل فيه الإصرار على اتخاذ الشريعة مصدراً للتشريغ، والذي يجئ من أحد بابين، أحدهما الجهل بحقيقة الإسلام وبأنه أصل الشريعة التي لا نصر على اختزاله فيها إلا لنعلن عن جهلنا به . والآخر باب سؤ نية هدفه الإستحواذ والتسلط باسم الإسلام، وذلك أمر ينطلق من مبدأ يغاير أساس الإسلام أي مبدأ التوحيد، الذي تتحقق المعرفة به عن القراءة باسم الله وفق مفتتح الوحي القرآني {إقرأ بسم ربك…} العلق الآية [1].
وما من مبدإ يغاير مبدأ التوحيد ويناقضه سوى مبدأ {أنا خير منه….} الأعراف الآية [11]. يضاف إلى ذلك أن تخلص المادة الثامنة إلى تقرير أن {تفسر أحكام الدستور وفقاً لذلك} أي وفقاً للشريعة كما يفهمها واضعو النص، فإن ذلك يناقض تأسيس الدستور على قيم الإسلام التي نراها مُغفلة أو مُتَجَاهَلَة في كثير من التفسيرات المؤسسة على رؤى مذهبية وأيديولوجية، والمحسوبة على الشريعة، كمثل تلك التي تصر على دونية المرأة.

مقالات ذات علاقة

المفردة وإعادة تحديث الشعر

المهدي الحمروني

أين ليبيا التي عرفت؟ (37)

المشرف العام

(كساد) هل هو مصطلح حداثوي؟

نعيمة العجيلي

اترك تعليق