سيرة شخصيات

الحياة من خلال عدسة التصوير

لم يكن التصوير مجرد هواية، إنما حياة.

نعم!!!

حياة عاشها من خلال عدسة التصوير، التي لم تتخصص في التقاط المناظر الطبيعية، أو اللحظات المخطوفة، أو توثيق الأحداث، كانت عدسة حية، تحس وتشعر بما تلتقط، لا مجرد قطعة زجاجة محدبة، وظيفتها تجميع أشعة الضوء، فقط، كانت عبر هذه الأشعة تبني علاقتها والأشياء، وتستشعرها وتعطيها بعضاً منها، لأن من يقف خلفها إنسان مختلف.

هذا الإنسان استطاع أن يحول الصورة إلى نص؛ يقول الكاتب “منصور أبوشناف”: (كانت نصوصاً بصرية يكتبها شاعر بالضوء والظل ثم بالألوان. تعبّر عن رؤية الفنان والشاعر للحياة والناس والكون، فكانت المدينة والوجوه الشعبية والبحث عن معنى مختلف للذات والتراث)، ويضيف هو الصورة بانها كانت (قصيدته البصرية). وهي تجربة دعمتها ثقافة، وجود مناخ ثقافي ورفق مثقفة ومفكرة جعلت من هذه العين منتجة، لا ملتقطة. وهي عين ظلت تنتج حتى آخر لحظة في حياتها.

إنها عين وعدسة الفنان الراحل “فتحي العريبي“.

الفنان الراحل فتحي العريبي

ولد الفنان “فتحي العريبي” يوم الأحد 15 مارس للعام 1942، بمدينة بنغازي، وتحديداً حي الصابري. واليوم يوافق الذكرى الـ75 لميلاده.

بداية علاقته بالتصوير كانت من خلال صحيفة (الحقيقة) التي كانت تصدر ببنغازي، كمصور صحفي، إضافة إلى مجلتي؛ الإذاعة وليبيا الحديثة، خلال الفترة من 1964 وحتى 1968.

ليتحول إلى التصوير السينمائي، من خلال الأفلام الإخبارية والتسجيلية، التي كانت تسجل وتبث لصالح إدارة الأعلام والثقافة بوزارة الأعلام، كمندوبٍ لمجلة الجريدة المصورة في بنغازي.

في ديسمبر 1968 افتتح التلفزيون الليبي بشكل رسمي، حيث التحق “العريبي” به، وأسس به قسم التصوير السينمائي والمعامل الفنية، وغرف التوليف فيما أسندت إليه إدارة هذا القسم. واستكمالاً لهذه المرحلة أوفد في شهر يونيو من العام 1969، في دورة فنية للتصوير السينمائي والمونتاج إلى ألمانيا، لدى شركة أري – ARRI، بمدينة ميونخ.

بعد عودته من ألمانيا، استمر عمله بالتلفزيون الليبي ليقوم على إخراج مجموعة من الأشرطة السينمائية القصيرة:

مجرد أحلام – 1971

دقات الساعة – 1972

الأطفال أطفال – 1972

الخلية والعسل – 1973

العودة إلى بيسان – 1974

المحاضرة – 1975

الفنان فتحي العريبي وتجربة مع التصوير السينمائي

وفي ذات الفترة، قام على إخراج مجموعة من البرامج التلفزيونية المرئية:

حياتنا الجديدة – وثائقي 1970

طريق البناء – وثائقي 1971

أغاني الحياة – موسيقي 1973

ألوان – منوعات 1974

عارفين ومش عارفين – للأطفال 1975

هذا منحه الفرصة، ليتم ترشيحه للالتحاق بدورة فنية في الإخراج التلفزيوني وكتابة السيناريو – لدي شركة (فيز نيوز – Visnews)، بمدينة لندن في العام 1978، وتحصل في نهاية الدورة علي الترتيب الأول بفيلمه التسجيلي: الحياة في الشمع – Life in Wax، وموضوعه متحف الشمع في لندن.

هذا العمل في مجال التصوير والإخراج السينمائي، وإخراج وإعداد البرامج التلفزيونية والذي استمر حتى تسعينيات القرن الماضي، كانت آلة التصوير لا تفارقه أبداً، والشاهدة على الكثير من التحولات. خاصة وإنها عدسة حية وواعية، تعرف كيف ومتى تقتنص، وكيف تسبر أغوار المشهد، لذا فصور “العريبي” صور مختلفة على الكثير من الأصعدة، سواء على مستوى الموضوع، والتقنيات.

فقد أقام “العريبي” سلسلة من معارض التصوير الفوتوغرافي، تزيد عن 60 معرضاً فردياً وجماعياً، داخل ليبيا وخارجها: أثينا – روما – فاليتا – باريس – لندن – لستر – دمشق – بغداد – الإسكندرية – القاهرة – تونس. حيث أقام معرضه الأول في بنغازي ضمن فاعليات النشاط المتكامل بنادي النجمة في عام 1965.

هذه المعرضة قدمت رؤية “العريبي” للتصوير، كأسلوب حياة، أو أن تكون الحياة من خلال عدسة التصوير، فكل مشهد هو موضوع صورة ضوئية، ومشروع تصوير يحتاج زاوية نظر خاصة، وعدسة حية تشعر بما تلتقط. وهكذا كانت موضوعاته مختلفة، وهي في ذات الوقت مشاريع بحث تحمل الكثير من المعاني والدلالات.

على الصعيد المعرفي، كانت الفنان الراحل “فتحي العريبي” يعمل على تنمية الرصيد المعرفي، فالمناخ الثقافي الذي باشر فيه عمله كمصور كان مناخاً متنوعاً وناشط، خاصة في وجود رفيقيه “خليفة الفاخري” والصادق النيهوم”.

هذا الرصيد المعرفي دعم الصورة، كما جعلك كمثقف مسؤول عن تقديم ما يملك من معرفة للآخر، فقام على إصدار مجموعة من الكتب:

المتفرج الوحيد (سينما + 95 صورة فوتوغرافية) بنغازي عام 1975 – منشورات مجلة: جيل ورسالة – الكشفية – الإصدار رقم 15.

البعد الثاني للقضية – منشورات عام 1984 – المنشأة العامة للنشر والتوزيع والإعلان – طرابلس.

الدليل إلى فن الصورة والتشكيل – عام 1998 – الدار الجماهيرية – مصراته.

دليل أجهزة التصوير الضوئي – عام 1998 – الدار الجماهيرية – مصراته.

تاريخ التصوير الصحفي في ساحات القتال – عام 1998 – الدار الجماهيرية – مصراته.

العين الثالثة (أساليب ومناهج في التصوير الضوئي عند أشهر المصورين في العالم) سرت – عام 2005 – مجلس الثقافة العام.

الدليل الميسر للتصوير بالكاميرا الرقمية – طرابلس عام 2010 المؤسسة العامة للثقافة.

ومما يحسب للفنان “فتحي العريبي” انفتاحه على الأجيال، واستيعابه للتجارب، والاستفادة من التقنيات الحديثة خاصة التي تمس الصورة والتصوير، وعندما دخل الإنترنت إلى ليبيا، كان من أوائل الفنانين، إم لم يكن الأول بالمطلق، الذي يستفيد من هذه الشبكة لتقديم إبداعه، فكان أن قام بتحويل عش الحمامة خاصة، من العالم الواقعي إلى العالم الافتراضي. وعش الحمامة هو ركنه الخاص التي حوله إلى ما يشبه المزار الفني حيث يكتب ويمارس التشكيل، ويستضيف فيه أعلام الأدب من داخل وخارج ليبيا.

عش الحمامة في العام 1975

عن العش يقول ابنه الفنان “أحمد فتحي العريبي”: (عش الحمامة عبارة عن ملاذ وخلوة فنية ومعتزل شخصي للقراءة والتحصيل الثقافي للوالد الكريم الفنان (فتحي العريبى)، وكانت بداية هذا العش في غرفة حديثة البناء وواسعة تطل نوافذها علي نسيم البحر مباشرة يتصدرها فناء مسقوف ومزودة بمطبخ صغيرة ودورة مياه متكاملة، وعلي مقربة منها برج صغير لتربية الحمام كمادة ميدانية للدراسة والتصوير وتقع هذه الغرفة مباشرة فوق بيت العائلة المكون من طابقين، علي الرصيف الشرقي من شارع الطيرة، بمنطقة الرويسات في مدينة بنغازي).

عش الحمامة في العام 1996

في العام 2000 بدأ اتصال “العريبي” بشبكة الإنترنت، فقد من خلالها العديد من الإسهامات الفنية، خاصة في مجال التصوير الفوتوغرافي والتعريف بالصورة الليبية، من خلال مدونة تحت اسم (عش الحمام)، قبل أن يتوقف ليعيد تقديم هذا الإسهام في العام 2005 من خلال موقعه (كراسي). والذي كان في شكل مجلة، وهي أول مجلة لها سبق الريادة في اللغة العربية وفي جميع لغات العالم المتخصصة في فنون وأدبيات الكرسي والكراسي، سواء على مستوى النص أو الصورة. وهي من المواقع الثقافية الليبية الرائدة. وصدر من هذه المجلة 94 عدداً، بتاريخ 15 مارس 2014.

ومن خلال هذه المجلة قدم “العريبي” الكثير من التجارب الإبداعية التي حاول أن يستفيد فيها من استخدامات الإنترنت فيما يخص الصورة، والكتابة للإنترنت، والتفاعل الشبكي، فأقام المعارض الإلكترونية، وأنشأ النصوص والقصائد الإلكترونية، كما كان من السباقين في مجال النشر الإلكتروني. وهي عكست قدرة هذا الفنان على التعامل مع التقنيات الحديثة ممثلة في جهاز الحاسوب والاتصال الشبكي، واستخدام البرامج والبرمجيات الخاصة بتحرير الصور وإنشاء الصفحات والمواقع الإلكترونية.

تعرفت إليه في أواخر تسعينيات القرن الماضي، ولازلت أذكر أول نصائحه لي:

– لما تبي تصور، ديما خلي الكاميرا معلقة في رقبتك، وإلا الخيط حول إيدك، بيش لو فلتت منك ما اطيحش. (وأفلت الكميرا من يده، وظلت معلقة، وهو يبتسم).

عمق النت اتصالنا، خاصة بعد أن بدأ موقع بلد الطيوب في النمو، فكان يقدم لي النصائح، ويتابع ما أنشر على الصحف، ويعلق، وبعد أن أطلق موقعه كراسي، نشر لي بعض النصوص الإبداعي، وكان مرجعي فيما يخص الصور وتحريرها.

في يوم الخميس؛ 2 من شهر أبريل للعام 2015، أعلن عن وفاة الفنان “فتحي العريبي” بعد عارض صحي لم يمهله كثيراً.

مقالات ذات علاقة

الحمامةُ البيْضاء.. نادرة العويتي

رامز رمضان النويصري

خليفة حسين مصطفى.. زاهد في محراب الأدب

أسماء بن سعيد

لا أريد مستقبلا يفصلني عن الماضي

المشرف العام

اترك تعليق