المقالة

الحرية تلد الحريات

نحن لسنا أحرارا بعد، نحن فقط وصلنا لحرية أن نكون أحراراً.

الحرية مطلقة كان الشعار الذي بدأت به النظم الاستبدادية مراحل تشكيلها، فمثل هذه النظم تميل إلى المطلق والتجريد في كل شيء، لذلك تطرح الحرية كشعار دون أن تكون ملزمة بتكوين مؤسساته أو تشريعاته، لأنه هكذا يعمي الأبصار ويتحول إلى سراب تداعب به تلك النظم شعوبها العطشى للحرية.

لذلك استبدل هذا الشعار الفضفاض إجرائيا إلى مصطلح “الحريات” وهذا الجمع المؤنث السالم ينزل بالحرية كمفهوم مطلق إلى مفهوم محسوس يمكن بناؤه وإدارته، وحين نقول الحريات دون أن نحدد عددها فإننا بالإمكان أن نحدد ماهيتها عبر دستور يضمنها وعبر شكل نظام حكم يجعل هذه الحريات في مأمن، مثل فصل السلطات وتداول السلطة واستقلالية القضاء وغيرها من ضمانات الحقوق والحريات والواجبات المترتبة على العيش وسط جماعة أيضا.

نعم حين يسقط نظام دكتاتوري عبر ثورة شعبية فمن المفترض أن تكون الحرية كمفهوم مطلق قد نزعت من احتكار النظام لها كشعار إلى العمل على تحويلها إلى حريات مضمونة بدستور يخضع له الجميع. وهذا المفهوم المطلق والمجرد للحرية هو ما يجعل الفترة التي تعقب نجاح الثورة تعمها الفوضى، لكن في النهاية العمل على تفصيل هذه الحرية والنزول بها إلى الأرض والنص أثناء بناء الدولة الجديدة هو المحك الرئيسي لنجاح الثورة، وهذا التحويل الكيميائي للحرية كمطلق إلى عناصر محددة يأخذ وقتا ليس بالقصير، كما يستلزم ثمنا قد يكون باهظا، كما أخبرتنا الكثير من تجارب التغيير السياسي الجذري.

المشكلة تكمن في كون من قاموا بهذه الثورة، أو عاشوا ولادتها، غير معنيين بالتفاؤل طويل المدى، فهم تمردوا على النظم الحاكمة بسبب أنهم يعانون من عسف وتضييق في الحريات أو العيش أو كليهما، ولم يفكروا أنهم سيصبحون جسرا من الجثث والجوعى و النازحين لتعبر فوقه أجيال أخرى بعد عقود إلى الحلم المعتق، فمن يتمرد بشكل غريزي يحتاج إلى نتائج تمرده لينعم بما ثار من أجله، أما خزعبلات المراحل والنضج فهو ليس معنيا بها، خصوصا إذا كان الإصلاح مواتيا في دولة مثل ليبيا، غنية، خالية من الطوائف أو الأعراق المتناحرة، ومجتمعها يشكل أسرة واحدة، وبالتالي فهم يحسون أن ثمة أشخاصاً تسلموا مرحلة البناء عندما اختارهم الناس المنتصرون فخانوا هذه الأمانة، وتعمدوا أن يذهبوا بالثورة إلى هذا المصير الذي جعل ذكراها مريرة بعد ثلاثة أعوام فقط.

تابعت الكثير من المتحدثين الذين يدافعون بشكل لا يخلو من الحرج عن هذه الفئات التي سرقت الثورة وانحرفت بمسارها الطبيعي الذي تكلل بانتخابات 7/7/2012 ، فيقولون: لا يهمنا العيش ولا الخبز لأن النظام كان يوفرها، ولكن الأهم هو الحرية التي تحصلنا عليها، فأتلفت حولي لأرى شيئا من هذه الحرية التي يتحدثون عنها، فلا أجد سوى الخوف المنتشر كالهواء. فما هو مفهومهم للحرية ؟ خصوصا ونحن نعرف أن مواجهتنا مع النظام السابق كانت من أجل الحرية، وحتى النظام المُسقط نفسه عاش على مدى عقود يتحدث عن الحرية التي جلبها للشعب، بل ويمرر هتافه الشهير بالخبزة والماء قررنا الحياة، وكل ذلك من أجل أن نحافظ على حريتنا وننعم بها. فعن أية حرية يتحدث هؤلاء المهللون لثورة فشلت حتى الآن في تحقيق أي من أهدافها؟ بل دفعت الملايين إلى الحنين للنظام القمعي الذي طالما حلموا بنهايته.

هل ما يقصدونه حرية التعبير؟ وهي إحدى الأكاذيب التي يروجونها في وسائل الإعلام، وكأن الشتائم والسباب واتهام الغير بأشد الاتهامات، هو المقصود بحرية التعبير، وهي القيمة التي لا يمكن أن يحس بها إلا كاتب أو صاحب رأي مكتوب، لذلك ظلت دائما مرتبطة بالصحفيين والكتاب ومنتجي الفنون ذات الرأي، أما حرية الكلام الشفوي الذي يذهب مع الريح فلا علاقة لها بحرية التعبير، بل كانت متوفرة إلى حد كبير فترة النظام السابق والذي أنشأ رقابة المطبوعات لحظر كل رأي مخالف مكتوب وترك الناس يتحدثون بحرية في مؤتمراتهم أو في مرابيعهم أو في زوايا المقاهي، وهو تنازل تكتيكي يأتي في سياق سياسة التنفيس التي يحتاجها المجتمع بعكس الرأي المكتوب الذي يعتبره أي نظام قمعي نوعا من التوثيق أو نوعا من التنوير المضاد لظلاميته.

فعن أي حرية تعبير يتحدثون؟! ومن في نطاق نفوذ فجر ليبيا لا يستطيع أن ينتقد هذا الفجر المزعوم، ولا الإسلام السياسي، ولا جماعة الأخوان أو المقاتلة، والصحفيون الذين قتلوا أو خطفوا في طرابلس خير دليل على ذلك. ومن هم في نطاق معركة الكرامة لا يستطيعون نقد هذه المعركة حتى وهم مؤيدون لها ولا يستطيعون الكتابة عن مخاوفهم من عودة العسكر، ومن في نطاق سيطرة داعش أو الجماعات المتطرفة يخفون كونهم كتابا لأن الكاتب أو الصحفي أو الفنان مرتد في عقيدتهم وواجب استتابته وصمته أو الذبح على غير قبلة. هل يتحدثون عن حرية التظاهر السلمي؟ ونحن نعرف أن من حاولوا التظاهر نُكل بهم بواسطة الميليشيات وقتل العشرات منهم في يوم واحد عندما تظاهروا ضد الميليشيات المسلحة في طرابلس وبنغازي حتى توقف الناس عن التظاهر.

فأية حرية متخيلة يحاولون جعلها بديلا لمقومات العيش الأساسية التي فقدت تماما، وأصبح الناس لا يطلبون سوى الأمن وإمكانية الاستمرار في العيش لهم ولأسرهم ، وهذا ما جعل الليبيين ينزحون بمئات الآلاف تاركين وطنهم أو تاركين مدنهم أو تاركين أحياءهم . إلا إذا كانوا يعنون بالحرية شعار (ليبيا حرة) الذي أصبح محل سخرية وتندر الناس في الشارع أو المشاهد الكوميدية التي تقدم في التلفزيون في شهر رمضان، حيث يحق لأي شخص أن يقفل الشارع أو يقيم مطبا أمام بيته أو دكانه، أو يستولي على أرض الدولة أو مبانيها، أو يجرف الغابات، أو يوقف سيارته في وسط الطريق، أو يقيم حاجز تفتيش على أي مفترق يشاء.

لم تكن يوما الحرية هبة ثورية أو مائدة تهبط من السماء لكنها قيمة حضارية لا يمكن أن توجد إلا في ظل دستور يضمن كل الحريات الشخصية، وفي نظام يفصل بين السلطات، وضمن نسق تفكير اجتماعي يؤمن أن لا مقدس في السياسة ولا شيء أو أحد محصنا ضد النقد طالما هو تصدى لأن يكون مسؤولا عن استقرار وحياة الآخرين. الحرية إقامة في ألوان قزح ولا يمكن أن تكون حمراء مضرجة بالدم في حرب الأخوة، كما أوهمتنا مناهج الأدب وقريحة العنف.

__________________

نشر بموقع بوابة الوسط.

مقالات ذات علاقة

هل لدينا تاريخ للشعر؟

سالم العوكلي

هوامش تشكيلية

ناصر سالم المقرحي

ملاحظات على مسودة الدستور الليبي (2/1)

علي عبدالله

اترك تعليق