من أعمال المصور أسامة محمد
طيوب النص

الحائطية (4)

من أعمال المصور أسامة محمد

 

(1)

كمشهد سيارة شرطة تلاحق بطل الفلم، حياتك تتكرر. كمشهد رجل يسقط من أعلى بناية على سطح سيارة، حياتك كليشيه. كأفلام الأكشن، أيامك متشابهة. كالمشاهد الإباحية في القنوات العربية، يقطع نصف عمرك دون أن تدري. كأن يقول البطل ” تباً لك” تخطئ في قول صباح الخير للجميلات.

كعاهرة تبعث فيك حب المجون وخوض المغامرات داخلها هي هذه المدينة التي تعيشها. الأيام لا تلقِ لك بالاً، الحرب لا تبحث عنك ولكن تبحث فيك عن أسوء ما فيك. أصدقاء طفولتي، أحدهم فقد نصف وجهه ويده في قنبلة يدوية رماها، آخر رأيته آخر مرة يستوقفني طالباً لأوراقي التبوثية، صديق آخر صرف وجهه عن المسجد بعد أن كاد أن يكون قاب قوسيْن أو أدنى من الانضمام إلى الجماعات الإرهابية، رأيته يقبل فتاة في ردهات الجامعة. أحد أصدقائي، خربت الحرب عقله. أخيراً، أحدهم يشبه اسمي، وجدته ذات مرة وقد فقد قدميْه.

يقولون لي، أنها هذه الحياة. عليك أن تفعل أفضل ما بوسعك، ولكن لا وسع لي إلا التفرج عليها… كمسلسل درامي رخيص، في يوم عملٍ ممل، في فراشي أمرر الوقت حتى يفرغ اليوم مني.

(2)

يخبرونني أن أكتب عن أي شيء، أنت تعرف: يمكنك كتابة مقالة تحليلية لأي شيء. تقصد: كطريقة جدتي في إعداد الشاي؟ لا، بل أقصد..خذ مثلاً “الهجرة غير الشرعية” تحدث عن معاناة المهاجرين، المهربين، خطر البحر وأشياء حقيقية، أشياء كالصحافة..لا كالأدب. لقد عرفتُ مهاجراً، كان ضاحكاً، ساخراً وهو في داخل مراكز الهجرة غير الشرعية، مليئاً بالحياة..حاول أن يعبر البحر مرة صحبة 150 آخرين حتى تلقفهم خفر السواحل، يسمونه “الملك” في المركز، هل تعلم ذلك؟، ذات يوم وجدته في أحد الأعمال السنمائية وأنا أطل على ليبيا من بلاد أخرى، ابتسمت وحزنت، فقد كان آخر لقائي به في أحد مراكز الإيواء قبل ستة أشهر، ويبدو أنهم رحلوه لمركز آخر، عندما انتهى الفلم، خرجت لأدخن سيجارة، أمضيت بقية اليوم في التعرف على ملامحي، فقد رحلت ذات مرة من هنا لأشهر لأجد نفسي كارهاً لحياة الرفاهية التي كنت أعيشها عازماً العودة للأرق، القلق، العرق، الغرق، وألق الرصاص في الليل. لا يا عزيزي! هل ترى ما الذي تفعله؟ إنّك تعشق رواية القصص، القصص لا تشتري لك قوت يومك.. تحدث بجدية، بعيداً عن الخيال، بعيداً عن أنسنة الأشياء…بعيداً عن العبارات المنمقة.

تحدث بجدية رجاءً/ يقولون لي، عن أي شيء: المقاهي، حال المرأة في ليبيا، الجينيريشن قاب، تأثير التدخل الخارجي في شؤون الليبيين، ربطات العنق، طعم القهوة اللاذع الذي بدأت أشربه لأخفي تقززي من النهارات، البنية التحتية وقيادتي للسيارة في وسط الظلام، وزارة المواصلات، اندثار الإيفكوات.  أشياء لا يبتدئ عنوانها بـ ” قصة”، ” قصة قصيرة”…أو حتى يأخذني الغرور لكتابة مئات الصفحات فأسميها رواية.

(3)

لماذا -حتى الآن- لا نملك وزارةً للفكاهة؟

كان هنالك في كلية الهندسة موظف اشتُهِر بعزّو غدوة، كان عزّو يعد “موظف الاستعلامات” في مكتب مسجل الكلية القابع داخل ردهات قسم الهندسة النووية، مبنى ألماني يعود لحقبة برلين الشرقية مليء بقبل العشاق ومكتبة تجلب الدوار. كان سبب تسمية عزّو بـ ” غدوة” أنه يجيب على كل سؤال للطلاب بـ: مافيش، مهناش، غدوة يا باش مهندس. وعندما تأتيه غداً ستجده يخبرك أن تأتي ” غدوة”، هذه المتلازمة التي التصقت به جعلتني ذات مرة آتيه 7 غدوات متتالية.

في تاجوراء، يعمل أحد موظفي الدولة كـ ” موزع غاز”، يجلس الرجل الخمسيني كل صباح أمام مستودع الغاز خاصته يشرب الشاي ويدخن السجائر وبجانبه عبوتيْ غاز مقلوبتيْن رأساً على عقب، وأيام كان هنالك غاز في هذا البلد المليء بالغاز، كنت آتيه لأملأ عبوتي الفارغة، كان الرجل ينظر لي كأنني شحاذ… سيتفضل عليه بعبوة مملوءة، كنت أخشى دائماً أن يطالبني بأوراق ثبوتية أو يخبرني أن ” المنظومة واقفة”.

واليوم أخبرني صديق لي بقصة مثيرة للضحك – لربما تكون مثيرة للبكاء أو العزاء، ولكن المآسي وحدها تضحكني- مفادها أنه وفي إحدى مؤسسات الدولة، وبعد شتاءٍ قاسٍ تسللت فيه المياه لأرشيف المؤسسة المليء بالأوراق والملفات الخاصة بالمواطنين، قرر الموظفون أن يضعوا الأوراق بعيداً عن غرفة الأرشيف في ممر، أصبح الممر كمتحف يأتي الزوار أحياناً لمشاهدة جبال الأوراق والملفات التي أعدمت بالماء، يخبرهم أحد الموظفين الذي يعمل كمرشد “سياحي” بعد أن يمسك أحد ملفات المواطنين الليبيين ويقرأ اسم المواطن المبلول بالماء: هذا فلان…. يبدو أن حياته ستكون صعبة قليلاً بعد اليوم. ثم يرمي بالملف في شيء من الشماتة أو كما يقول الشباب الآن ” يتكيّف”.

مقالات ذات علاقة

نص ما قبل التصوير

مهند سليمان

الفلسطيني في وطنه علامةُ وجودٍ وثباته نصرٌ موعود

المشرف العام

عصية على البقاء

المشرف العام

اترك تعليق